كما كل معارك لبنان، منذ معركة وجوده، تبدو الأسرار المحيطة بمواجهات طرابلس الأخيرة مرشحة لرقم قياسي جديد. ليست وحدها مسألة هروب قادة المجموعات ما يقع تحت تلك الخانة، علماً بأن الكثير من المعلومات في هذا المجال بات يخرج إلى العلن المحظور. تماماً كما باتت مسألة هروب شاكر العبسي من مخيم نهر البارد بعد أعوام، مسألة تندر يومي بحقائقها، بين المعنيين بمأساتها: كيف ذهب أحدهم إلى جوار المخيم مساء ذلك النهار من أواخر شهر آب 2008. وكيف انهار إرهابيّو فتح الإسلام فجأة بعد تلك الزيارة. وكيف سقط المخيم في 2 أيلول. وكيف اكتشف الجميع فجأة أن العبسي قد تبخر. وكيف ضبطت جثته المزعومة والموضبة للإلهاء.
وكيف تعرف إليها دينيون وأهل. وكيف استغرق التثبت من كذبة الجثة (التزاماً بأمانة البحث العلمي حول الحمض النووي!) كل الوقت اللازم لترتيب ما كان مرتباً مسبقاً! وتماماً كما ستصبح مسألة تبخر أحمد الأسير وفضل عبد الرحمن شاكر شمندور، من داخل أربعة مبان لا غير محاصرة، في عبرا لا في تورا بورا، مسألة أكثر ندرة وتندراً بعد فترة من الزمن!
هكذا كانت طرابلس مسرحاً لقرار كبير. تعليمات عليا صدرت بإنهاء ملف المولوي ومنصور ومن معهما، فوراً. لا يعرف أحد مصدر الأمر. غير أن المروحة الشاملة للذين نفذوه، توحي بأنه أكبر بكثير من لبنان ومن كل من وما فيه. مثلاً، القوى الطرابلسية بكل توزعاتها السياسية، وبكل إيحاءاتها الخارجية، التزمت. فجأة ساد صمت عميق. خطفت أنفاس خالد الضاهر ومعين المرعبي وما يسمى «هيئة العلماء» وكل أصحاب الهيئات الأخرى. الالتزام نفسه ترجم في كل لبنان. كل الأصوليين من كل الأصناف، دعويين كانوا أو علميين أو جهاديين أو إرهابيين، كلهم لاذوا بالصمت. سالم الرافعي خارج البلاد. لكن صمت الآخرين لم يكن أقل بعداً وخروجاً. «مجلس علماء المسلمين» في شتوره، مشايخ أزهر البقاع، مشايخ علماء المسلمين الذين اعتصموا مرة أمام وزارة الدفاع وهاجموا الجيش من هناك… كلهم غرقوا في وجوم.
حتى قادة الإرهابيين خارج لبنان التزموا أمر الصمت نفسه. زعيم إرهابيي «النصرة»، أبو محمد الجولاني، لم يكرر رسالته أواخر أيلول الماضي، بدعوة سنّة لبنان لضرب الجيش وحزب الله. إعلام الجولاني الرائد، عبر «مؤسسة المنارة البيضاء»، بدا مكموم الفم. الزعيم الإلكتروني في «كتائب عبدالله عزام» الشيخ سراج الدين زريقات، أصيب بالبكم نفسه. مع أن صوته كان ملعلعاً قبل أسابيع قليلة، في التحريض على الجيش. حتى إن سرّ «أمر اليوم» في مواجهة طرابلس، ذهب أبعد من الكلام. فجأة سكت ابتزاز الجيش في موضوع العسكريين المخطوفين. لا بل اختفى أي تهديد في هذا المجال. كأن من أعطى الأمر بحسم مواجهة باب التبانة قادر أيضاً على شل «داعش» و»النصرة» معاً، كما على إسكات كل أنصارهما من سلفيين وسياسيين وبرلمانيين… حتى انتهاء أكشن التصوير في طرابلس.
سرّ آخر مرافق كان يجري في الوقت نفسه. فيما أسواق الفيحاء مزدهرة بالهجوم الكبير، وفيما الصمت سيد المعنيين بالمعركة كافة، في هذا الوقت بالذات يصل الوسيط القطري السوري إلى عرسال، علماً بأن المعلومات المتوافرة حول الشخص المقصود تشير إلى أنه ليس قطرياً ولا سورياً. فهويته الفعلية الوحيدة هي أنه إسلامي. أحمد الخطيب هو أحد الأعضاء المتحركين خلف الخطوط والحدود، في قيادة ما يسمى «الهيئة العامة للثورة السورية». وهو كان قد تولى مهمات تسليحية عدة، منذ بدايات «الجيش السوري الحر» حتى «جبهة النصرة». مهمات سرية عدة، جعلته على تماس مع العديد من اللبنانيين المتورطين في تلك الملفات داخل لبنان وخارجه، فضلاً عن كون والدته من بلدة عرسال، وينتسب بعلاقة نسب إلى المتهم الفار مصطفى الحجيري «أبو طاقية».
من يقدر على جمع تلك المكونات كلها في طبخة واحدة؟ الجواب أكبر من قدرة أي محلل على الإجابة. لكن، لماذا كشف أصحاب هذا القرار الكبير جماعاتهم؟ ما الذي دفعهم إلى التصرف بهذا الشكل الفاضح، بحيث أظهروا أن إرهابيي «داعش» و»النصرة» ومسلحي طرابلس ووسيط قطر وكل الباقين، ينفذون أمر عملياتهم الواحد الموحد، حين يصدر عن مرجعيتهم العليا الخارجية؟
في كواليس السلطات اللبنانية، ثمة تفسير أولي واحد لذلك. ألا وهو رسالة جدية وموثوقة، نقلت قبل أيام من دمشق إلى كل من يلزم. مفادها أن «قوة سورية مكوّنة من ثلاثة ألوية من الجيش السوري، يؤازرها إسنادان مدفعي وجوي، باتت جاهزة على الحدود، لاتخاذ كل الإجراءات اللازمة لدفع الخطر الإرهابي عن الساحل السوري، من عكار حتى طرابلس». وصلت الرسالة عبر القنوات الرسمية كما السرية. فاستنفر المعنيون باستقرار الوضع عندنا. وأبلغوا خطورة ما يحصل إلى كل متعهديهم الإقليميين والمحليين. حتى صدر القرار بالحسم. على طريقة التضحية ببضعة أشخاص، من أجل تجنب الكارثة وتلافي الأسوأ، فيما كان الجيش اللبناني يحصي شهداءه الأحد عشر وجرحاه الثلاثة والستين، يرجح أن رسالة من نوع «نفذ الأمر»، كانت تصل من أكثر من خمس عواصم، إلى صاحب القرار السري الكبير.