ثمّة رواية داخل بيئات المعارضة السورية تُفنّد الأسباب الخفيّة والأساسية التي تقف وراء انهيار مسلّحي شرق حلب. وعلى الرغم من أنّ هذه الرواية تتضمّن نوعاً من جَلد الذات تعبيراً عن مرارة خروج هذه المدينة من بين أيديهم، إلّا أنّها في الوقت عينه تشرَح لماذا تغيّرَت معادلة حلب الآن بعد ثلاث سنوات من استقرارها على خطوط حمرٍ سياسية وعسكرية تَحمي لعبة اقتسامها بين النظام وفصائل المعارضة.
بدايةً يُعتبر سقوط هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية الأميركية، أهمَّ الأسباب السياسية التي غيّرت معادلة احتفاظ المعارضة بشرق حلب. كلمة سرّ كلينتون لوفد هيئة المفاوضات في المعارضة السورية الذي التقاها بُعيد انهيار اتفاق كيري – لافروف، هي الصمود ستّة أشهر إلى حين تولّيها الحكم. لكنّ كيري كان قد حذّر المعارضة السورية منذ شباط الماضي من أنّ عدم استجابتها للحلّ في حلب سيؤدي الى تهديمها.
لقد هُزمت كلينتون، وصدقَ تنبّؤ كيري الذي كان يسعى لعقد صفقة مع لافروف لقتال «داعش» و«النصرة» في كلّ سوريا، تتضمّن اعترافاً أميركياً بشراكة استراتيجية مع موسكو في سوريا.
كلينتون كانت تريد إجراءَ تغيير في سوريا يطلبه البنتاغون، وهو على صلة بتحسين صورة خريطة الانتشار العسكري الاميركي في المنطقة في مقابل أنّ روسيا تبالغ في انتشارها العسكري في المنطقة.
دونالد ترامب على عكس كلينتون، غيرُ معنيّ بتحسين توازن القوى العسكري بين النظام والمعارضة في سوريا، ويَعتبر أنّ هدف أميركا حصراً هو إنهاء «داعش» وكلّ الإرهاب بالتعاون مع الرئيس بشّار الأسد والرئيس فلاديمير بوتين، في ظلّ ظرف أنّ بديل الأسد هو المجهول ومعارضة لا نعرفها.
التوقيت الدولي بعد هزيمة كلينتون ومعها شعارُها الذي سرّبته للمعارضة «اصمدوا ستّة أشهر وسترون أميركا جديدة في سوريا»، أصبح مناسباً لبدء معركة حسمِ حلب التي تريدها موسكو لسببَين: ملاقاة إدارة ترامب بوقائع تعزّز نظريتَه بأنّه يمكن الحسم العسكري ضد الإرهاب في سوريا، ومع الأسد، وفرض أجندة حلّ في سوريا لا تقوم على مرجعية «جنيف 1» بل على مرجعية فيينا التي تتحدّث عن حكومة وحدة وطنية مع الأسد.
إلى ذلك هناك أيضاً أسباب موضوعية تخصّ المعارضة وخصوصيات الميدان السوري، أبرزُها:
أوّلاً – عدم قدرة فصائل الميدان السوري على التوحّد، وهذا العنوان في نظر المراجعة التي تجريها المعارضة المسلحة، هو من بين الأسباب الأهمّ لهزيمة حلب. وللدلالة على منزلته هذه، شهدت إدلب (المنطقة الأساسية للمعارضة) 15 تظاهرة ترفع شعار «توحدوا أو نصرفوا».
انعكاسات تشتّت الفصائل المسلحة على ميدان حلب، تجسّدت على مستوى عدم تنظيم الموارد البشرية المقاتلة وتوجيهها ضمن خطط تعكس رؤيةً استراتيجية للميدان السوري بكلّيته، وأيضاً على مستوى أنّ كبريات الفصائل المسلحة بنَت خلال الأشهر الماضية خيارات وأولويات استراتيجية لها مختلفة ومتنازعة، وأخطرُ ما فيها أنّ منزلة حلب فيها تقع بعد منزلة أهمّية تعزيز وجودها في إدلب.
«جبهة النصرة» (فتح الشام) أنشَأت لها خياراً مصلحيّاً استراتيجياً قوامُه تخفيف ثِقلها العسكري في حلب، لتحاشي الوقوع في مصيدةِ وجود توافقٍ دولي خفيّ على رأسها فيها، وركّزت «النصرة» على بدء سباق مع «داعش» في ما يسمّى «حرب الحدود»، للسيطرة على منافذ الحدود السورية مع دول الجوار العراقي والتركي.
وأيضاً على بدء سباق مع كبريات الفصائل المسلحة لتدعيم ثِقلها في منطقة إدلب المتّصِفة بأنّها ستكون الملجأ الأخير للمعارضة. هذا السباق زعزع حتى علاقتها بـ«أحرار الشام» (كبريات الفصائل المسلحة)، وذلك على خلفية موضوع «جند الأقصى» ذي الصلة بالسباق على الاستقطاب في إدلب.
ثانياً – فصائل شرق حلب المحلية، أيّ المنتمية بيئةُ مسلحيها لحلب وريفها، ارتكبَت تجاوزات، حيث مارسَت سلطة عقائدية دينية على الحياة اليومية للأحياء التي تحت سيطرتها.
كما أنّ فراغ ميدان حلب النسبي من كبريات الفصائل التي بدأت تركّز اهتمامها على إدلب، سَمح لمجموعات صغيرة قوامُها مهاجرون قوقازيون، خصوصاً للبروز أكثر داخل ميدان حلب الشرقية، ما قوّى ذريعة موسكو ومصلحتَها الخاصة بضرورة الحسم العسكري فيها.
ثالثاً – ثمّة عامل استراتيجي عسكري طرأ، قوامُه تمكُّن «حزب الله» من تعطيل قوّة الصدمات الانتحارية للمهاجمين، وذلك بتقنيةٍ تمزج بين أفراد استشهاديين وخبرة عسكرية، تؤدي إلى تقليل الخسائر الناتجة عن الهجمات الانتحارية بحافلات مفخّخة بمئات الكيلوغرامات من المتفجّرات.
لقد اعتمدت الفصائل سلاحَ المفخّخات الانتحارية استراتيجيةً لإحداث صدمة اقتحام مواقع الجيش السوري، وكسرِ خطوط دفاعه وأيضاً لصدِّ الهجمات عليها. في معركة حلب الأخيرة تعطّل بمقدار كبير هذا السلاح كقيمة استراتيجية في الهجوم والدفاع.
رابعاً – ما تسمّيه مراجعة المعارضة بـ«الخيانة الكردية». للمرّة الثانية، تقدّم الأكراد في مناسبة معركة عسكرياً نحو المدينة، على نحو يَدعم خطة الجيش السوري للسيطرة على حيّ مساكن هنانو الذي جَعل المسلحين في عشرة أحياء في شرق المدينة مكشوفين، وليس أمامهم إلّا خياران: التسليم للقوّة الكردية، أو للجيش السوري.