IMLebanon

الطائفية يحبّها اللبنانيون فلا يستَهِن بها نوّاب «أنا التغيير»!

 

 

الكلمة المُختَصرة التي ألقاها الرئيس نبيه بري، بُعَيد انتخابه، ودعا فيها الجميع، بمَن فيهم نواب «التغيير»، الى التعاون، كانت التمهيد الصحيح، لهؤلاء النواب، للبدء من نقطة التقاء يصبو إليها الجميع من أجل تخليص لبنان من أزماته وآلامه، وهي معبر مستقبلي قريب الأجل، للمرور الى وقف معاناة الوطن.

ومع أن برّي كان متّهماً عند ارباب «١٧ تشرين» بإدارة مجلسية خاطئة، يجزمُ عارفون بما في أدراج مجلس النواب من إصلاحات جذرية، أن التغييريين سيكتشفون ما اكتشفه غيرهم قبلهم، أنه في غالبية محطات الاختناق النيابي والوزاري، كان بري بموقعه الوطني والمجلسي رافعة سياسية ثابتة، لإيجاد حلول، في أصعب الظروف والأزمات السياسية والأمنية، إلّا في الحالات التي كان فيها انتقاص من دور المجلس (محاكمة نواب عند القاضي البيطار، وهذه مسؤولية هيئة محاكمة النواب والوزراء المجلسية / وهل ننسى تَخلّيه عن وزير شيعي في حكومة سابقة لمصلحة حل عقدة التمثيل السنّي.. وغيرها من المخاطر). ودعوَتُه التوفيقية اليوم لجميع النواب، سيلمس قيمتها النواب الجُدد، بمجرّد احتكاكهم الفعلي بأمور البلد الفالت على غاربه «من جوّا»، وتفحّصهم لما في المجلس من مشاريع قوانين، أدّى العفنُ السياسي الكيدي الى تأجيل البحث فيها، على خلفيات نكد ومذهبية وطائفية، ذلك أنّ ما في روما من فوق، يختلف عما هي عليه تحت. وإنّ قراءة مَيْل اكثرية النوّاب السنّة لتأييده، بإرادتهم الكاملة، في غياب زعيمهم سعد الحريري، رغم اندفاع مرجعيتهم الإقليمية الى نصرةِ فريق سياسي لا يحبّذونه، هو خير برهان على الأمان الذي يشعرون به تجاهه.

 

فإذا ما علمنا أنّ واحداً، واحداً فقط من نوّاب «التغيير»، قد خرجَ من جلسة انتخاب رئيس المجلس النيابي ونائبه وهيئة مكتب المجلس، بأيّ شعور غير الأسف والمرارة والإحباط على حالهم، فمعنى ذلك أنه نائب لا يعرف ماذا فعلَ، ولا ما يدور حوله، لا بل يمكن اعتبارُ فشَلِه البَدْئي، فشَلاً للمجتمع المدني الذي أنجبه وقدّمه للمجتمع السياسي والوطني في البلد.

 

وتالياً، فإن أذاهُ «غير المقصود» والناتج من عدم خبرة، ولربما اذا تكرر بفِعل مراهقة مقصودة، سيقضيان على أي أمل حقيقي في التغيير.

 

فالمرحلة التي كان فيها هؤلاء في الشارع صارخين باسم التغيير الكلّي للمنظومة السياسية، انتهت، ومطلوب منهم الآن الإنتقال الى المواجهة عبر القوانين والتشريع في المجلس النيابي، والثغرة الكبرى التي تمثّلت في عدم وجود قيادة موحدة لهم، او مشروع موحّد، إبّان التظاهرات ولم يعترفوا بها، أثّرت عليهم سلباً وأظهرتهم على قول الشاعر «بلدي رؤوسٌ كلُّها / أرأيتَ مزرعةَ البصَلْ؟».. وهي ثغرة سيزداد أثرها السلبي عليهم هُمُ أولاً، وثانياً على نظرة الذين انتخبوهم اليهم.

 

إنّ ما كان يمكن المرور عنه في السنتين الأخيرتين من تفرّقهم وتشتت قوّتهم وغياب الرؤية السياسية الواقعية لبلدِ الأحاجي والطلاسم لبنان، لا يمكن الإستمرار به، ضَنّاً بهذه التجربة الجديدة التي ليس غريباً أن تمزّقها «التموضُعات» في القضايا الداخلية والخارجية، وتعرقل حيويتها «طبيعة» الحياة السياسية المشتبكة دائماً وأبداً، والقادرة على الصمود في وجه أعتَى المحارَبات. وعسى ان يتحوّل ما جرى معهم من اصطفاف إجباري غب الطلب مع «القوات» و«الإشتراكي» و«الكتائب»(وهُم من «كلّن») في انتخاب نائب رئيس المجلس، درساً عن ضرورة التحضير للمواقف حتى لا يُؤخذوا على حين غرّة في شيء! وليس لمصلحتهم أبداً أن يساعدوا النائب بولا يعقوبيان في تكتيكاتها (وقد بدَت في الجلسة كمُرشدة لهم) لئلاّ تنتقل إليهم خصوماتها وتحالفاتها «الصوتية» غير النافعة!

 

ببساطة ووضوح: لا شيء يمكن أن يصنع لهؤلاء «التغييريين» مكانة معينة، أو يجعل لصوتهم صدى فعالاً، إلّا «التكتل» النيابي الذي يجمعهم، ويؤلّف بينهم، إذا تمّ، ومن دون ذلك كما يدري الجميع، «الأنا» القاتلة. فالثلاثة عشر نائباً الذين يشكلون جماعة في العدد، هم أقرب الى الصفر اذا ظلّوا ثابتين في «الأنا»، أي اذا بقي كلٌّ منهم رافضاً «الآخَر» الذي يُفترَض أنه منهم. وهنا العُقدة الجدية، إذ أنّ أي تكتل أو كتلة ينبغي أن يكون لها رأس، وأن يستطيع هذا الرأس استيعاب الجميع، والجميع يحدّدون معه، بالنقاش والممارسة الأولويات التي ستُعتمَد في عملهم على الأرض السياسية. وهذا الشكل من التعاون لم نعرفه في بلدنا أبداً: أي تكتّل نيابي بلا رأس، أو بلا منهج تطبيقي محدّد، أو بلا سياسة عامة واقعية واضحة.

 

إن المَظهَر والمضمون اللذين ظهَر بهما نواب التغيير على الناس في جلسة انتخاب برّي ونائبه، والإرتباك الذي رافَق حضورهم، واقتراعهم الذي بدَا جاهلاً في المطلَق لأبسط ما يجري عادة في مجلس النوّاب، رمى بصورتهم المرتفعة عند منتخِبيهم، إلى حيث لا يتمنّون.

 

فهل يجوز لهم حضور جلسة لانتخاب رئيس المجلس ونائبه وهيئة المكتب، من دون أن يتفاوَضوا مع أي جهة لها مرشحون، أو حتى ليس لها مرشّحون، على الأقل، لتحسّس الأرض التي يسيرون عليها، وكل ما عندهم انهم يستندون في دخولهم المجلس الى مبدئهِم الفضفاض «كلن يعني كلن» وهم مدركون أن المجلس يحضنهم «كلّن»، وهم مضطرون الى الكلام او التفاوض مع «كلّن» بلا استثناء ليكون لهم موقع في التصويت. فالموقع في المجلس حُسِم لهم، لكن الموقع في التصويت هو أساس التأثير والفعالية، وإذا كان الموقع الأول تُحصّله العلاقة بالناس، فالموقع الثاني يُحَصله امتلاك ذكاء، ودراية باللعبة السياسية، وقدرة على فهم ما يجري من تركيبات مشاريع وقوانين، وتكتلات «تأخذ وتعطي» حسب القواعد الصحيحة لا «اللبنانية» الهوية. و«الأخذ والعطاء» في أي مؤسسة مدنية، كالمجلس النيابي عندنا، لا بل في كل المجالس النيابية في العالم،لا بل في كل مؤسسة على الإطلاق، هو الطريق الوحيد لنيل المَطالب، سياسيةً كانت أم اجتماعية أم اقتصادية أم تربوية.. اللهمّ أن تكون مُبَرّأة، من المنافع الشخصية والمحسوبية!

 

قبل الإنتخابات، كانت استطلاعات الرأي تعطي المجتمع المدني أربعة الى خمسة نواب على الأكثر، فكانت المفاجأة في ثلاثة عشر نائباً، وهذه التجربة ينبغي المراكمة عليها ايجابياً، وإلّا لن نتعجّب إذا، في الأيام القليلة المقبلة، رأينا نائباً من هؤلاء مع هذا الفريق من «كلّن» ونائباً آخر مع فريق آخر.. وهكذا دواليك، ولن يجد المُنتقِلون منكم الى «هنا أو هناك»، صعوبة في التبرير لأنفسهم أو للجمهور، بأنهم يبحثون عن الفاعلية بعدما لم يجدوها في أسلوب عملكم كجماعة بعدة رؤوس!

 

إن من يريد رفض الأعراف الطائفية والمذهبية في مجلس النواب عليه أن لا يترشّح أساساً الى المجلس بناء على تلك الأعراف. وإن من ترشّح التزاماً بتلك الأعراف وهو يراها تُنقصُ المواطنية عليه أن يعرف كيف يثور عليها من الداخل من دون أن يَسقط في أول اختبار مع تحدي تجاوُز «طائفته». فالكلام الجميل عن الأوطان، وبنود الإصلاح الكمالي في المجتمع، والنظريات في محاربة الطائفية والمذهبية شيء، والعمل على إلغائها بالفعل والممارسة شيء آخَر. وهنا القيمة الحقيقية للثورة والثوار.

 

فيا أيها الذين وضعتم لأنفسكم معيار التغيير، عليكم تغيير خطابكم أولاً، فشعارات الشارع تدعو الى السخرية والضحك عندما تُنقَل كما هي بَعْلاً وبلا خطة عمل، الى مراكز القرار. ولعلّ طرح موضوع الزواج المدني، قبل أيام، وإدلاءكم بآراء مؤيدة ثم ردّات الفعل القاسية عليكم التي جعلتكم تتراجعون عنها، لهي مؤشر لكم عما تفكرون به ويمكن أن ينقلب عليكم، فكيف بتلك الأفكار السياسية العالية جداً التي ترددونها في بلدنا ومن دون تحقيقها وَحْلٌ قَد يصلُ منَ الأرجل إلى الوجوه إذا ما تهدّدت عروش الطائفية وهي الأحَبّ على اللبنانيين مهما تكاذبوا برغبة الخلاص منها!