هناك أمور في غاية الخطورة تحدث في المنطقة. على رأس هذه الامور إحلال الميليشيات المذهبية مكان الجيوش الوطنية. ليس تشريع «الحشد الشعبي» في العراق عن طريق البرلمان والأكثرية المذهبية فيه سوى تتويج للانقلاب الذي تقوده ايران بهدف الانتهاء من مؤسسات الدولة العراقية، الواحدة تلو الأخرى، بغرض إقامة كيان يدور في فلكها.
تشريع «الحشد»، الذي هو كناية عن مجموعة ميليشيات تابعة لأحزاب مذهبية عراقية سبق لها ان قاتلت الجيش العراقي، الى جانب «الحرس الثوري» الايراني، في ثمانينات القرن الماضي وفي مرحلة لاحقة، يعني بكلّ بساطة الانتهاء من جيش عمره قرن الّا خمس سنوات. يبدو التشريع بمثابة معركة أخيرة مع هذا الجيش الذي تريد ايران القضاء عليه نهائيا، كي لا تقوم له قيامة في يوم ما.
تأسس الجيش العراقي في العام 1921. يمكن القول انّه انتهى في العام 2016. يمكن القول ايضا انّه انتهى قبل ذلك، أي في العام 2003، عندما اصدر المفوض السامي الاميركي بول بريمر قرارا بحلّه، علما انّه كان في الإمكان الاستفادة من نواة الجيش لبناء مؤسسة عسكرية جديدة محترفة تحلّ مكان تلك التي كانت قائمة في عهد صدّام حسين.
لم يبنَ جيش جديد ولم يبنَ عراق جديد كانت إدارة بوش الابن تعتقد انّه سيكون نموذجا «ديموقراطيا» يحتذى به في المنطقة. نعم، قام نموذج عراقي هو ذلك الذي ارادت ايران قيامه. يقوم هذا النموذج على دور الميليشيات المذهبية وحلولها مكان مؤسسات الدولة كما هو حاصل حاليا. ما هو حاصل يتجاوز العراق ليصل الى دول أخرى من بينها لبنان واليمن على سبيل المثال وليس الحصر.
ما لا يمكن تجاهله، انّه حتّى في عهد صدّام حسين، بقي في الجيش العراقي ما يمكن التأسيس عليه. فهذا الجيش احتفظ في احلك الظروف التي مرّ فيها، بما في ذلك عندما اغدقت الألقاب العسكرية على افراد من العائلة مثل حسين كامل، على وضع خاص به. ضمّ الجيش في كلّ وقت ضباطاً محترفين يمتلكون الكثير من الخبرة ويعرفون ما هي الاكاديميات العسكرية. وهذا ما كشفته الحرب مع ايران بين 1980 و 1988، كما كشفته مرحلة احتلال الكويت في العام 1990 وما تلاها من تطورات. اكدت هذه التطورات رفضاً من بعض الجيش للقتال خارج الأراضي العراقية او الدفاع عن النظام القائم وغياب القناعة بضرورة غزو بلد مسالم مثل الكويت.
يندرج تشريع «الحشد الشعبي» في سياق الرغبة في الانتهاء من العراق. ظهرت هذه الرغبة بوضوح ليس بعده وضوح خلال الاعداد للحرب الاميركية على هذا البلد الذي كان عضواً مؤسساً لجامعة الدول العربية وعامل توازن على الصعيد الإقليمي، بغض النظر عن كلّ الأخطاء التي ارتكبتها الانظمة القمعية التي توالت على حكم البلد منذ انقلاب العام 1958.
قبل الحملة العسكرية الاميركية في آذار 2003 والتي توجت بسقوط بغداد في الشهر التالي من تلك السنة، انعقد في لندن مؤتمر للمعارضة العراقية بإشراف أميركي ـ إيراني مباشر وتنسيق في العمق بين الجانبين على كلّ صعيد. كان ذلك في كانون الاوّل 2002.
للمرّة الاولى منذ قيام العراق، يصدر لدى ختام المؤتمر بيان عن مجموعة عراقية معيّنة يتحدّث عن «الأكثرية الشيعية» في هذا البلد. كان هناك ما يبرّر تضمين البيان عبارة «الفيديرالية» نظرا الى ما عاناه الاكراد في مراحل معيّنة وبغية انضمام هؤلاء الى الحملة على نظام صدّام حسين. لكن الكلام عن «الأكثرية الشيعية»، علماً انّه كان في الامكان الكلام عن أكثرية عربية… او عن توازن سنّي ـ شيعي، اذا اخذ في الاعتبار الوجود الكردي، عكس نيات في غاية السوء. أوصلت هذه النيّات الوضع في العراق الى ما وصل اليه اليوم، مروراً بإنشاء مجلس الحكم المحلّي. كان الهدف من المجلس الذي ضمّ خمسة وعشرين عضواً تهميش السنّة العرب نهائياً. وهذا ما ظهر جلياً من خلال هذا المجلس الذي تعاطى مع هذه الفئة بصفة كونها اقلّية كانت تحكم العراق ولا بدّ من ازاحتها وليس بصفة كونها مكوّناً من مكونات البلد وعنصراً أساسياً فيه.
ما نشهده حالياً هو حلقة مكملة، بل الحلقة شبه الأخيرة في عملية تستهدف نقل المنطقة الى مرحلة جديدة اسمها العصر الايراني. تتذكّر ايران جيداً ان العراق كان منطلقاً للفتوحات الإسلامية عبر التاريخ، خصوصاً من الكوفة والبصرة. حلّ الان أوان الفتوحات الايرانية في اتجاه معاكس. العراق يبدو الهدف الاوّل لإيران. منه يتوسع المشروع الايراني في اتجاه سوريا. من هنا يُفهم الدور المقبل لـ»الحشد» فيها. من هنا أيضا يُفهم ذلك الدور الايراني، بالتفاهم مع النظام السوري، في قيام «داعش». بات «داعش» الذي سيطر على الموصل في ظروف مريبة في منتصف العام 2014، في عهد حكومة نوري المالكي، من الأدوات الضرورية لتبرير قيام «الحشد» تمهيداً لتحويله جسماً شرعياً والجيش الحقيقي للدولة العراقية الجديدة التي تدار من طهران وليس من ايّ مكان آخر.