لا نقابات مهنية بالمعنى الحرفي لكلمتي نقابة ومهنية في لبنان. حال النقابات من حال البلد: أبناء أحزاب وطوائف يتنافسون لتمثيل أحزابهم وطوائفهم، أكثر من كونهم مدافعين عن حقوق المنتسبين إلى النقابة. وبناءً على ذلك، يصبح غياب «أبناء طائفة» ما عن مجلس نقابة، للعام الثالث على التوالي، سبباً لأزمة طائفية، تتدخل فيها مرجعيات دينية، تصوّر أن حقوق الطائفة مهدورة، ثم يخرج البعض ليقول: لا حل إلا بـ«التقسيم»؛ تقسيم النقابة على أساس طائفي ومناطقي. إنه زمن العصبيات في نقابة محامي بيروت
في انتخاباتها الأخيرة يوم 20 تشرين الثاني 2016، خطت نقابة المحامين في بيروت خطوة «عصرية»، إذ اعتمدت التصويت الالكتروني. اعتدّت النقابة بذلك، غير آبهة بأن النظام الانتخابي المعتمد، أي النظام الأكثري، مطابق تماماً للنظام المتخلّف المعتمد في الانتخابات النيابية والبلدية.
التصويت عبر شاشة كومبيوتر يسهّل فرز الأصوات، لكنه لا يسمح بتمثيل حقيقي للمحامين. وبدل أن تكون نقابة الحقوقيين نموذجاً يُحتذى به في تطوير القوانين، تصرّ على جعل نفسها مرآة للنظام السياسي الحاكم. وكونها كذلك، يمكن خسارة المرشحين المنتمين إلى طائفة ما أن تتحوّل إلى أزمة مذهبية. للمرة الثالثة على التوالي، لم يفز في الانتخابات أيّ محام ينتمي إلى الطائفة الشيعية. مباشرة، استُحضِر الخطاب الطائفي. صدر بيان استنكار عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ثم اشتدّ الاحتقان ليزداد جنون بعض المحامين: نُريد نقابة خاصة بنا. هبّ نقباء ومحامون لتأكيد حرصهم على زملائهم، قبل أن يقطع الرئيس نبيه بري النزاع عبر رفضه دعوات التقسيم. لكنّ الخلاصة واحدة: نقابة المحامين في بيروت ليست بخير.
يرفض بري «دعوات التقسيم» ويدعو إلى توحيد نقابتي بيروت وطرابلس
«لماذا يوجد نقابتان للمحامين في بيروت والشمال وفقط؟» يسأل أحد المحامين ليُعقِّب: «سنُطالب بنقابة للمحامين في جبل لبنان وأخرى في الجنوب». يتدخّل محامٍ آخر ليتحدثّ عن «الإقصاء» الذي يتعرّض له الشيعة في نقابة بيروت. يستعيد المحاميان «مذهبية» الاقتراع التي سُجّلت في النهار الانتخابي، لينتقلا إلى الحديث عن «مسار يبدأ من امتحانات الدخول إلى نقابة المحامين في بيروت ولا ينتهي في عضوية مجلس نقابة فحسب». وما تقدّم ذكره على لسان المحاميَيْن المذكورين، صار يتكرر على ألسنة محامين آخرين، وتحديداً منذ إعلان نتائج انتخابات عضوية مجلس النقابة. وعزز هذا الانقسام البيان الصادر عن نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان الذي «استنكر استمرار انعدام التمثيل الشيعي في النقابة للسنة الثالثة على التوالي»، واعتباره ذلك «ضرباً للميثاقية والعيش المشترك». ثم طالب بتشكيل مجلس نقابة المحامين في بيروت مناصفة بين المسلمين والمسيحيين. البلاد الغارقة في أوحال المذهبية والطائفية المكرسة دستوراً في مجلسي النواب والوزراء ووظائف الفئة الاولى، تتجه يوماً بعد آخر نحو الإيغال أكثر في الدعوة إلى التمثيل المذهبي، بدل التخفيف من غلواء الطائفية حيث هي منصوص عليها.
اتهامات «ضرب الميثاقية» يُردّ عليها بالقول إن «٢٥٠٠ صوت غير شيعي مُنِحوا للمرشحين الشيعة، لكن الخلل ظهر بسبب سوء إدارة المعركة. تعدّد المرشحين الشيعة شتّت الأصوات التي مُنحت لهم». وفي هذا السياق، علّق مفوّض قصر العدل السابق المحامي ناضر كسبار على البيان قائلاً إن «هذه النقابة تضم الجميع. وأيّ عضو مُنتخب هو ممثل لجميع الطوائف، لا لطائفته». وردّاً على ما يُحكى عن اقتراع طائفي، قال كسبار: «لا وجود للطائفية كما يُصوِّر البعض. وأرى أنه يجب مستقبلاً أن تدار الانتخابات بطريقة أخرى، ويجب أن نكون في النقابة حريصين أكثر على أن تتمثّل كل العائلات الروحية». بدوره علّق نقيب المحامين السابق المحامي نهاد جبر قائلاً: «لا يمكنهم تحميل الفئة الثانية المسؤولية، هم يجب أن يتحمّلوها. أربعة مرشحين شيعة تقاسموا الأصوات»! أما عن ضرب ميثاق الشرف الذي وُقّع عام ١٩٩١ واتُّفق فيه على تمثيل المسلمين بأعضاء في مجلس النقابة، فقال جبر: «المحامي المسيحي التزم بالميثاق، لكن الميثاق لا يُحدد اسماً محدداً». وأضاف: «لم يُتّفق على التخصيص أو كوتا، انما اتُفق على أن تكون كل العائلات ممثلة فيه». أما ما يتردد عن مطالبة محتملة باستحداث نقابة فعلّق عليه النقيب السابق للمحامين بالقول: «نتمنى أن لا يحصل لأنه يُضعف نقابة بيروت. وهذا ليس حلّاً»، متحدثاً عن «مشروع لتعديل قانون تنظيم المهنة أُعدّ في وقت سباق يتضمّن زيادة عدد الأعضاء في المجلس، ليُفسح المجال لعدالة التمثيل».
في المقابل، تردّ مصادر قريبة من رئيس مجلس النواب نبيه بري بالقول إنه «لا شك أنّ أداء الأحزاب المسيحية كان غير مسؤول، ما تسبّب في حصول إقصاء، لكن أسهل الحلول لتبرير الفشل هو اتهام الطرف الآخر بالإقصاء، ثم القول إننا خسرنا لأنهم طائفيون». وفي الانتخابات النقابية الأخيرة سُجِّلت أيضاً خسارة مرشّح التيار الوطني الحرّ ربيع معلولي. وبالتالي، تكون حاله من حال باقي المرشّحين الشيعة، وإن أسعفته بضعة أصوات في أن يكون عضواً رديفاً. أمّا عن موقف المجلس الشيعي بشأن استحداث نقابة محامين جديدة، فتكشف مصادر قريبة من بري أنّه من أشدّ الرافضين لهذا الطرح، مشيرة إلى أنّ رئيس المجلس «أحد أبرز الداعين إلى توحيد نقابتي المحامين في بيروت والشمال». لكن هل هناك رضى عن حال النقابة؟ الإجابة بالتأكيد لا. تؤكد مصادر مطّلعة على ملف نقابة المحامين أنّ «الرئيس بري مستاء لأن الحال في النقابة ليست بخير»، لكنّها لا تربط ذلك بنتائج الانتخابات الأخيرة. بالنسبة إليها: «لن يُقدّم عضوٌ إضافي في المجلس أو يؤخر نقصانه شيئاً». وترى المصادر نفسها أنّ «الحكاية تبدأ من امتحانات الدخول. من اللجنة المشرفة عليها. من الكوتا الطائفية التي تحدد طائفة المنتسبين إلى النقابة». وتسأل هذه المصادر: «من الطبيعي أنّ أعداد المتقدمين من المسلمين (سنّة وشيعة) إلى نقابة المحامين في بيروت دائماً أكبر من المسيحيين، لكن لماذا تكون أعداد الناجحين من المتقدمين المسيحيين أكبر؟».
بالتأكيد، لا يواجه خطأ إقصاء تمثيل أبناء طائفة ما، في حال كان متعمّداً، بخطأ أكبر هو أن يكون لكل طائفة نقابتها. لكن ما سبق يفرض على مجلس نقابة المحامين الحالي إجراء مراجعة لقانون تنظيم المهنة وأداء اللجان النقابية التي يشتكي البعض من كونها تؤدي دوراً سلبياً يُعمّق الشرخ. ومن واجبها، كحاملة للواء المساواة بين البشر، أن تبادر إلى البحث عن قانون انتخابي يسمح بعدالة التمثيل للمحامين غير الطائفيين وغير الحزبيين في الدرجة الاولى، ويساهم في تخفيف أي احتقان مذهبي، بدل تكريس الواقع الرديء والقول إن «البلد هيك».