Site icon IMLebanon

هل طائفية النظام هي علة العلل؟

 

ثمة سطحية ما في مقاربة بعض المنتفضين للطائفية في لبنان تؤدي إلى خطأ جسيم بوضع إسقاط ما يسمونه النظام الطائفي في لبنان في رأس سلم أولويات الإنتفاضة. ولكي لا يفسر رأيي هذا على غير حقيقته أسارع إلى القول أن ثمة حاجة لتطوير النظام حتى بلوغ الدولة المدنية، أي دولة المواطنة؛ ولكن هذا أمر يتطلب ظروفاً داخلية وإقليمية مؤاتية.

 

من الواضح أن مقاربة هذا البعض هي نتاج تقاطع بين قراءة للواقع اللبناني لبعض اليساريين القدامى أو الجدد من خلال القوالب الجامدة للماركسية و/أو القومية، مع الثورة الشبابية العفوية والمحقة على الفساد والممارسات السياسية والإدارية البالية المتخلفة التي يعتبرونها عن حق أساس خراب حياتهم ومستقبلهم.

 

ولوضع الأمور في نصابها، أتقدم من القارئ بتوصيف لبنية الإجتماع السياسي اللبناني كتبته في العام 2006 ولم أنشره في حينه، هذا نصه:

 

«بالرغم من بعض مظاهر الحداثة التي يتحلى بها الفرد اللبناني، فإن المجتمع اللبناني يعاني من آفات تجعله مشابها» لأكثر المجتمعات تخلفاً في العالم. والمشكلة تكمن في بنيته الاجتماعية – السياسية، وهي مزيج هجين من الإقطاع الآري والقبلية السامية، كما يوصفها اوهانيس باشا كويومجيان، آخر متصرف للبنان، وهي تتمظهر بما يمكن تسميته بالبيوتات السياسية الكبيرة والصغيرة، القديمة والمستحدثة، التي تفرض سيادتها على الحياة السياسية والاجتماعية العامة والخاصة بكل مفاصلها.

 

وفي واقع الحال، أن هذه البنية متجذرة بأيديولوجيتها وأنماط العلاقات الملازمة لها في الاجتماع والسياسة، بحيث لا تكمن المشكلة فقط في كينونة وتصرفات «زعامات» هذه البيوتات، إنما أيضاً في خضوع الشعب الطوع لها وهو الذي يرتضيها مولاة له، فتحقق له مصالحه خارج المسالك القانونية والنظامية وتحميه من ملاحقة الدولة المركزية، أياً تكن السلطة التي تتولاها، مقابل ولاءه الأعمى واستزلامه البخس لها. فلبنان عبارة عن مجموعة دويلات متناحرة متنافسة فيما بينها تتشكل من البيوتات السياسية، تسعى كل منها على اقتطاع أكبر حصة ممكنة من سلطة الدولة المركزية لحساب سلطة دويلتها الخاصة. فهي بذلك تشبه المافيات التي يتوقف قوة رئيس كل منها ليس على عدد الذين هم على استعداد للموت من أجله بل على عدد الذين هم على استعداد للقتل بأمر منه. فالساحة السياسية اللبنانية يسودها ما يمكن توصيفه بتوازن الرعب فيما بين هذه المافيات.وبعد ذلك، كيف يصح التساؤل حول أسباب ظاهرة «الدولة-المزرعة»، أو عن آفات المحاصصة والرشوة والدكاكين والفساد والإفساد… وهل من سبيل للإصلاح في ظل سيادة البيوتات السياسية على الحياة السياسية اللبنانية؟!

 

والمشكلة تكمن في أن التنظيمات التغييرية، أو تلك التي طرحت نفسها كقوة تغيير، لم تتمكن من تكملة الطريق وصولاً إلى تحقيق الهدف المنشود، لا بل تحولت من جماعات سياسية تلتف حول مشاريع سياسية وطنية وتغييرية إلى مجموعة أزلام تدين بالولاء البدائي والغددي والأعمى لزعيم بيت سياسي مستجد، يختصر «القضية» بشخصه ويشكل نموذجاً مسخاً عن تلك الزعامات التي طرح نفسه أصلاً بديلاً عنها. هذه حالة الغالبية العظمى للأحزاب اللبنانية: الرئيس هو أبدي سرمدي لا «يرثه» إلا ابنه أو زوجته أو أخوه أو ابن أخيه أو حفيده أو زوج صهره أو… أقرب الناس إليه بالدم. فالسياسة في لبنان كما في أكثر البلدان تخلفاً لها علاقة وطيدة، ويا للأسف، بالجينات والسائل المنوي لزعيم البيت السياسي.

 

من هنا يطرح السؤال المركزي: كيف يمكن كسر الحلقة المفرغة التي يدور فيها التغييريون اللبنانيون؟ كيف يمكن تأمين مستقبل للبنان وهو يرزح تحت حتمية نظام حكم البيوتات السياسية الذي لا يرتضي وجود أي جسم سياسي غريب عنه إلا إذا حوله إلى مثيله، أي إلى بيت سياسي مستجد؟! كيف يمكن إنتاج نخبة سياسية جديدة، طالما أن كارتيل البيوتات السياسية القديمة والمستجدة تهيمن على الحياة الطلابية والشبابية عبر تجهيلها وترؤسها وبالتالي توليد نخبها من رحم هذه البيوتات التي هي المشكلة في الأساس، وطالما أن الإنتلجنسيا اللبنانية تقبل بتسخير نفسها لخدمة هذه البيوتات أو أنها عاجزة عن طرح البدائل المجدية الفاعلة؟!

 

ولا بد هنا من التأكيد على أن مشكلة التخلف في لبنان لا تكمن في التكوين الطائفي والمذهبي للمجتمع اللبناني ولا في الميثاق الوطني والصيغة ولا في النظام الديمقراطي التوافقي الذي يسميه البعض بالنظام الطائفي البغيض، إنما بسيادة البيوتات السياسية على الحياة السياسية اللبنانية التي تفسد هذه الحياة وتنتج الممارسات الطائفية الشاذة نتيجة نوعية أدائها السياسي المرتبط بطبيعتها الأنانية وعدم اكتراثها بالمصلحة العامة ومحاولتها الاستئثار بقرار الطائفة والمذهب وتوظيفه في خدمة جشعها السياسي والمالي».

 

وهنا، لا بد من الملاحظة أن إتفاق الطائف يتضمن آلية لتطبيقه لم يعمل بها حتى يومنا هذا، كما أنه يتضمن آلية لإلغاء الطائفية (المادة 95 من الدستور) والوصول إلى دولة مدنية ترسخ مفهوم المواطنة وتحترم في آن معاً الواقع الطائفي والمذهبي للبنان بحده الأدنى (مجلس شيوخ) حيث أن الجغرافيا والتاريخ جعلا المجتمع اللبناني مكون من طوائف ومذاهب.

 

المهم أن تعترف الانتفاضة أن البيوتات السياسية تتحكم منذ عصور بلبنان وهي سبب بلائه الأساسي بغض النظر عن وجود نظام طائفي أو عدم وجوده، علماً أن التاريخ يعلمنا أن الروح المركانتيلية متأصلة في البنى النفسية للبنانيين حتى في مرحلة ما قبل وجود الطوائف والمذاهب، أي في عصر الحموريين والفينيقيين. لا شك أن للجغرافيا تأثيرها في تكوين هذه البنى النفسية.

 

لذا، يتوجب على الانتفاضة، بدلاً من إعطاء الأولوية لإلغاء النظام الطائفي، أن تركز على التخلص من الطبقة السياسية المتحكمة باللبنانيين من «موالاة» و«معارضة»، وأن تتمسك باتفاق الطائف ولا سيما المادة 95 من الدستور، وألا تنسى أن هذه الطبقة شريكة وأداة وخاضعة، ولو بأشكال متباينة، لحزب الله الذي أدخل لبنان في ما يسمى محور المقاومة، وهو في واقع حاله الأداة المرحلية لمشروع الجمهورية الإسلامية في إيران لتصدير ثورتها إلى العالم، وهذا أمر ينهي لبنان الكيان والدولة ويضع اللبنانيين على طريق التسول والتشرد في العالم.