Site icon IMLebanon

«الطائفيّة» بعد أن توقّفت عن كونها «لبنانية»

 

لسنوات خلت، كان يمكن أن تسمع من صديقك السوري أو العراقيّ أنّ «الطائفية، هذه عندكم في لبنان». اليوم، صار مستبعداً جدّاً أن تسمع ذلك. مجمل الفكر اللبناني حول جذور المسألة الطائفية ودولتها كان يطيب له حصر نفسه في حدود الكيان، وكان يتمركز بشكل إيجابي أو سلبي حول جبل لبنان. اليوم، صار كل خوض في المسألة لا يقابل بين أنماط حضورها في عدد من مجتمعات الشرق الأوسط مختلّ المقدّمة وعديم المنفعة. وبشكل محدّد أكثر، صار هناك كوكبة من البلدان التي تشهد صراعاً مذهبياً حادّاً وعارياً، ولبنان، الذي تتداخل فيه القسمة المسيحية – الإسلامية مع القسمة السنية الشيعية من دون أن تلغي الثانية الأولى، يحتل موقعه ضمن هذه الكوكبة. 

ما الذي يستدعيه ذلك الانتباه الى «إقليمية المسألة الطائفية» و«إقليمية الصراع المذهبي» اليوم، بعد أن كنا لسنوات خلت نكتفي بالحدود المحلية لهما، وبعد أن كان «حزب الله» مثلاً يخوض نضالاً مذهبياً مفتوحاً في الداخل اللبنانيّ في حين يكتفي الرأي العام في البلدان المجاورة، وذات الأكثرية المذهبية السنية، بوزن صورته الخارجية، المتجرّدة عن الطائفية والمذهبية؟ كان هذا غيض من فيض قوامه أن الطائفية اللبنانية لم تكن «مفهومة» في الأقطار المجاورة، ولم يكن مردّ انعدام الاستيعاب هذا انتفاء أسباب الطائفية في هذا الجوار، بل العكس، احتباسها رغم استفحالها. 

بالتوازي، وصف كل شيء على أنه طائفي يلغي أي جدوى من هذا الوصف. كذلك الأمر عند ردّ الصراع المذهبي الى «طبيعة الأشياء نفسها»، أو التوهّم بأن تاريخه متّصل ببعضه البعض على امتداد القرون لا انقطاع فيه ولا تغيّر إلا بالحيلة والشكل. هذا تصوّر عقيم مثله مثل ردّ هذه الانقسامات التناحرية الى سياسات الاستعمار القادم من ما وراء البحار. 

من هنا، يستدعي الانتباه إلى خروج المسائل الطائفية والصراعية المذهبية من إطارها اللبناني، تنبيهين لا واحد. 

الأول، أن إقليمية المسألة تفتح الباب على مرحلة جديدة بات فيها الشرط اللازم لاستعادة أي وطنية كيانية، سورية كانت أو عراقية أو يمنية أو لبنانية، هو إقرار واقعها الأهلي – الطائفي والإثني على ما هو عليه، والتداول في الأشكال الأنسب لعيش هذه الجغرافيا التعدّدية، وليس المهم هنا امتداح هذه التعدّدية. أبداً. أحقية التعدّدية المذهبية والإثنية لا ترجع الى كونها جميلة، وإكزوتيكية، بل الى كونها خطيرة، وقاتلة. لكن التأهب لقتلها هو الذي يجعلها قاتلة أكثر طالما أنّ هذا التأهّب لن يلبث أن ينحاز الى طائفة على أخرى، والى مذهب على آخر. 

الشيء يقارن بالشيء. قامت الماركسية في القرنين الماضيين بجهد طويل لإبراز تناقض فكرة الدولة، من حيث إنها كي تكون دولة وطنية لا يمكنها أن تتماهى عضوياً مع طبقة بعينها، لكنها لا يمكنها أن تكون أيضاً دولة محايدة بين الطبقات، فجهازها منحاز للطبقة المسيطرة، فيما لها جسم اجتماعي يمكنه بشروط مختلفة أن يؤمن اندماج نسبة من الطبقات الشعبية في مشروعها. لا يمكن قول الشيء نفسه عن علاقة الدولة بالطوائف والإثنيات. لكن هنا أيضاً، ليس بالخطابية الرسمية وحدها يمكن أن تكون الدولة «فوق الطوائف والإثنيات»، أو محيّدة في الصراع المذهبي، سواء كانت منحازة في مركزه أو على هامشه. 

أما الشرط الثاني، فيقضي بالحؤول دون أن تستهلكنا المقاربة الأمنية لكل الأمور. بما في ذلك الأحداث الأمنية، مقاربتها الأمنية البحت كارثية، من دون أن يعني ذلك الركون الى مقارباتها الشعبوية، من نوع الاكتفاء بالحديث عن الإهمال التنموي والفقر والفاقة عند كل تناول لانفجار مسلّح في بقعة ما. فهكذا جمل نمطية شعبوية، مثلها في ذلك مثل التفسير الأمني لكل شيء، ومثل تعليل كل شيء بالمؤامرة الكونية، ومثل ردّ كل شيء الى أحقاد أزلية: منظومة كاملة تريد أن تنسينا أنّ الطائفية سياسة، والمذهبية سياسة. هذا الدرس اللبناني بامتياز ينبغي الحرص على عدم تناسيه في لحظة تمدّد الصراع المذهبي إقليمياً.