يقع السجال حول العلمانية والدين الدائر هذه الأيام، في قلب المنطقة الحرجة التي يفترق فيها بناء المجتمع ومن ثم الدولة وتحدد سماتهما.
تصريح الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي حول تعديل عملية الإرث ليتساوى فيها الذكر والأنثى وردّ الأزهر عليه، ثم حذف البرلمانين الأردني واللبناني المواد التي تبرّئ المغتصب من جريمته إذا تزوج الضحية، أثارت جدالات آن الأوان لتعميقها وتأصيلها والخروج منها بآراء أكثر تقدماً من تلك السائدة اليوم.
من المهم في السياق هذا لفت الانتباه إلى أن المساواة بين الذكر والأنثى في الميراث والتي جذبت الجزء الأكبر من النقاشات، من العناصر المؤسسة للاجتماع الإسلامي. ثمة قدر كبير من التسرع في القول إن واحداً من أسس العلمانية هو فردية الدين واعتباره علاقة خاصة بين المؤمن وخالقه. وتسرع مشابه بالقول بفصل الدين، بالتالي، ليس عن مؤسسات الدولة وحدها بل عن كل سلطة اجتماعية، رمزية وثقافية. يصح هذا القول في بلدان قطعت أشواطاً بعيدة في تحقيق حرية الفرد واستقلاله. في حين أن المجتمعات العربية ما زالت تعلي من شأن الجماعة وقيم الطاعة والولاء والانضباط، على حساب الفرد. لا «استشراق» في الكلام أعلاه، إذ ليس كل توصيف لواقع لا تقره رؤيتنا عن ذاتنا «استشراقاً».
عليه، لا يصح النظر إلى مسألة المساواة في الميراث بصفتها تتعلق بالعدالة بين أفراد بالمعنى المجرد، بل إنها من وجهة نظر المجتمعات المسلمة تتناول أساس عملية تشكيل الفرد في جماعة المؤمنين. إنها مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى المجتمعات المسلمة (خصوصاً العربية منها) وليست مسألة عدالة. قبول أو رفض مقولة المساواة في الإرث وفي مجمل موضوع الأحوال الشخصية في الإسلام، ينشآن من الموقع الاجتماعي للرافض أو الموافق وليس من موقع فقهي أو اكاديمي– نظري فحسب. الاقتراحات التي قُدمت في الأعوام الماضية بقانون مدني اختياري للأحوال الشخصية (في لبنان مثلاً) قوبلت باعتراض حاد من المؤسسة الدينية لإدراكها أن قانوناً كهذا لا يؤثر في مكانتها ودورها الاجتماعي- السياسي فحسب، بل لأن آثاره تصل إلى عمق بنية الجماعة وانتظامها.
موازين القوى السياسية– الاجتماعية هي التي أتاحت في مناسبات سابقة إقرار قوانين مثل الخلع في مصر وبعض الإجراءات العلمانية في تونس. تقبل المجتمع والمؤسسة الدينية للقوانين تلك يعكس صورة السلطة ووزنها وقوتها وليس التأييد الشعبي والموقف العام منها. فهذان الاخيران يحتاجان إلى عملية ديموقراطية لتظهيرهما وهي غائبة عموماً في العالم العربي.
تعيين المجتمعات العربية هنا يصدر عن احتلال روابط القرابة والجماعة مكاناً أعلى في تراتبية السلطات (بمعانيها الواسعة) بالمقارنة مع غيرها من المجتمعات المسلمة، خصوصاً تركيا التي تجري المقارنة بها في العادة عند كل تناول للإسلام والعلمانية، من دون الاخذ في الاعتبار أن العلمانية الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال) صحيح فرضت من فوق، لكنها ترافقت مع إعادة تركيب كل البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد بعد الحرب العالمية الأولى، ومع هندسة شاملة للدولة والمؤسسات ونبذ الأقليات والقوميات غير التركية. النماذج المسلمة غير العربية الأخرى، مثل ماليزيا وإندونيسيا وأفريقيا جنوب الصحراء، لها تاريخها الخاص في العلاقة مع الإسلام وفي تمثّله.
سيرى بعضهم في ما تقدم طرحاً لسؤال الأولوية العبثي: أيهما قبل؟ الإصلاح الديني أو تغيير القوانين على يد السلطة الحاكمة؟