كان الذين ظنوا خطأ واعتقدوا انطلاقاً من فرضية غير مقطوع بصحتها أن باستطاعة لبنان أن ينجو بنفسه بعيداً عن هذا النزف المتواصل للدماء الذي تغرق فيه المنطقة العربية يروجون لوجهة نظر لا علاقة لها قط بالواقع المادي المعاش.
فإن تحييد لبنان نفسه عن الصراعات الدموية التي تلفّ المنطقة العربية من البحرين مروراً بالعراق وسوريا ليلامس الأردن ويحاول التوغل إلى السعودية من الممر اليمني كان يتطلب وضعاً لبنانياً آخر مغايراً تماماً عن ذلك الذي تجدنا نتخبط فيه الآن. لأننا نفتقد إلى التحصين الداخلي ووحدة الموقف الوطني.
فالسياسة المغامرة المتخمة بعناد وتعنّت لا مثيل له التي ما زال حزب الله عندنا يمضي فيها في سوريا التي تحوّلت إلى ساحة دولية لتقاطع المصالح الجيوإستراتيجية للقوى العالمية والإقليمية ذات المشاريع التوسعية لن تتوقف عن إكراهنا على تذوّق ثمارها المرّة المشبعة بالدماء.
فهو بكل بساطة يتبنّى بحذافيرها السياسة الإيرانية التي لا تتوقف ولا تكلّ عن تحويل منطقتنا إلى مستنقع إيراني لا مكان في مياهه الآسنة لأي صوت معارض للولاء المطلق للنظام الملالي الفارسي بحلته الجديدة المرتدية جلباب ولاية الفقيه. وبالفم الملآن ومن على المنابر يعلن أمينه العام السيد حسن نصرالله أنه جزء لا يتجزأ من المشروع الإيراني العتيد.
فقد ذهب حزب الله بمقاتليه إلى سوريا لإنقاذ نظام بشار الأسد الدموي الذي أشرف على الهلاك. فقد كانت نتائج مغامرته العسكرية هذه وبالاً على لبنان. وبذريعة مواجهة الإرهابيين التكفيريين الظلاميين وقع شاء أم أبى في صراع مذهبي وأثار حفيظة أحقاد وثارات تعود جذورها إلى ماض سحيق عمره مئات السنين ينكأ بها جروحاً قديمة ليس للمسلمين ولا للعرب أي مصلحة في استذكارها قط.
فأن تقتحم القرى والبلدات وتجتاح الأرياف وتدخل المدن السورية تحت رايات وشعارات مذهبية لتسحق المعارضة السورية كان هذا هو الباب المشرّع أمام الإرهاب الداعشي وأمثاله ليلتف على المعارضة السورية وليتابع طريقه وصولاً إلى لبنان، فيصبح الوطن الصغير عندها ساحة مغرية قابلة لتصفية الحسابات الخارجية.
لأن بين السوريين اللاجئين والنازحين الذين فاق عددهم عندنا المليون ونصف المليون من الذين هربوا من جحيم الحرب السورية العديد ممن تعتمر صدورهم بأحقاد وثارات مذهبية من يجدون في الساحة اللبنانية المشرعنة الابواب والتي تتآكلها الصراعات، الفرصة المتاحة وبما لا يقاس لتعويض خسائرهم في الرقة وأبعد من ذلك في الفلوجة وسواها من مدن العراق.
اليس الواقع بهذا الوضوح في ما يتعلق بالنازحين السوريين الذين يمموا بشتى الوسائل والفرص المتاحة حتى سيراً على الاقدام شطر الدول الاوروبية الغربية كألمانيا وبلجيكا واليونان وسواها التي شرّعت منافذها الحدودية فاستقبلت عشرات بل مئات الألوف من السوريين الهاربين والتي ما لبثت بعد احداث باريس وبروكسيل ومتاعب امنية اقل دوياً في المانيا ان بدأت تعيد النظر في سياسة حدودها المفتوحة هذه؟ ذلك ان الأدلة الأمنية القاطعة قد اثبتت ان من بين منفذي الاعتداءات الاخيرة هناك التي جرت اولئك الذين تسللوا في صفوف النازحين.
انه الموضوع شديد التعقيد والارباك لأنه من جهة هناك الجانب الانساني والاخلاقي الذي يناشد الضمير والقيم التي تعتد اوروبا بالتمسك بها ومن جهة اخرى الجانب الامني وسلامة المرافق العامة في تلك الدول المضيفة. فكيف بالإمكان التوفيق بينهما في مسألة استضافة النازحين.
ألم نشهد في لبنان على سبيل المثال تلك المظاهرة السياسية التي حشد فيها انصار الاسد عندنا ومن رافقهم من مؤيدين محليين في تلك الانتخابات الصورية التي نصبت بطل الظلام بشار الأسد مجدداً رئيساً لولاية جديدة منذ سنوات عشرات الالوف من المتظاهرين الموتورين.
ألم يشهد الأردن بالأمس عند حدوده الشمالية تسللاً ارهابياً لزعزعة الأوضاع الأمنية هناك؟ وما علاقة لاجئي الرقبة بالاعتداء الأخير؟
وفي المقابل اصبحنا نعلم كلبنانيين ان النطاق الامني الدقيق الذي يضربه حزب الله بنظامه المحكم على الضاحية الجنوبية وهي حصنه الحصين يخضع فيه السوريون الداخلون اليها لرقابة شديدة بعد التفجيرات الآثمة التي طاولته في غير مرة مؤخراً. فلا تستغربن والحالة هذه الطوق الذي ضربه الجيش اللبناني على مخيمات النازحين السوريين قرب بلدة «القاع» اللبنانية الحدودية بعد التفجيرات الانتحارية التي جرت منذ يومين، لان حادثة القاع الدموية تشابه كثيرا حادثة الرقبة الاردنية.
لسنا في معرض المعارضة الثابتة لسياسة التورط في الحرب السورية بل العراقية واليمنية التي ذهب فيها حزب الله عندنا كل مذهب فحسب، بل ترانا ندق ناقوس الخطر اننا نواجه مع احتماء النازحين السوريين بلبنان مشكلة هي من الاهمية والخطورة بمكان. فثمة ألغام موقوتة وخلايا نائمة مدسوسة بيننا، وبين السوريين النازحين انفسهم، والارهاب يسعى إلى ما هو ابعد من تفجير الانتحاريين انفسهم بصورة استعراضية ولم يضرب اهدافا ذات بال وأهمية.
ليس بإمكان أي لبناني حصيف مدرك للواقع القائم الضاغط علينا من كل الجوانب أن يفصل المسائل الأساسية بعضها عن بعضها الآخر، لأنها جميعاً مترابطة. ففي بلد بلا رئيس للبلاد وحكومة غير متجانسة تختزن ما لا يطاق من تناقضات، وبرلمان عاجز عن تسديد استحقاق دستوري ملزم ومصيري، وما لا يحصى من أزمات تحمل سياسة حزب الله تبعاتها الكارثية وفي جملتها مشكلة حسابات ممولي حزب الله في العديد من المصارف. فإن الوضع الأمني المشرّع على كل الاحتمالات يطرح الكثير من التساؤلات الباعثة على القلق الشديد.
إن الربت على أكتافنا من غير موفد أو سفير أو أي مسؤول من المنظمات الدولية المعنية بشؤون النازحين السوريين، معبرين عن إعجابهم الشديد بمدى قدرتنا على الاحتمال، لا يغير من واقع الأمر شيئاً ما دام النظام الإيراني ومعه حزب الله اللبناني يروق لهم كثيراً ويتفق مع مصالحهم استمرار لبنان متخبطاً في هذه الحال من المراوحة في الأزمات.