بعد غياب تام دام حوالي 4 سنوات، منذ نهاية عام 2019، قرّرت الدولة قمع المخالفات المرورية في الضاحية الجنوبية بشكل أساسي، وفي بعض أحياء مدينة بيروت بشكل خجول. نصبت الحواجز ولوحقت الدراجات النارية حصراً دون بقية المخالفات، نُكّل بأصحابها وتعامل رجال الأمن معهم بصلف وجلافة غير مسبوقيْن. صودرت الدراجات «عن بو جنب» من دون مسوّغ قانوني أحياناً، وبالخديعة والغدر. على حاجز في منطقة الغبيري، طُلب من سائق دراجة قانونية إبراز رخصة قيادته، وما إن نزل عن دراجته وخلع خوذته لإخراج البطاقة من حقيبته حتى صادر عنصر الدرك دراجته بتهمة عدم ارتداء خوذة! وفي منطقة الرادوف حُمّلت الدراجات النارية المتوقّفة أمام أحد المقاهي على «بلاطة» للحجز من دون التدقيق في قانونيتها. كعكة الانفجار اكتملت أول من أمس بعد إطلاق عناصر مخفر منطقة المريجة النار «على الصايب» لتفريق محتجّين على الحملة الأمنية الظالمة.في الضاحية الجنوبية وغيرها من المناطق التي لا يهواها العقل السياسي للدولة اللبنانية، اليد رخوة على الزناد، رجال الأمن من درك وجيش، إن حضروا، فهم مستعدون للقتل مباشرةً، يطلقون النار على الرؤوس. الشواهد كثيرة من مجزرة جسر المطار في أيلول من عام 1993، إلى أحداث حي السلم في أيار من عام 2004، ووصولاً إلى مار مخايل في كانون الثاني عام 2008 حين قتل الجيش بالرشاشات المتوسطة والرصاص المتفجّر 8 متظاهرين نزلوا إلى الطرقات للمطالبة بالكهرباء!
ببساطة، في الضاحية الجنوبية ناس من لحم ودم يحاولون البقاء على قيد الحياة، ينظّمون أمورهم بغياب الدولة، ويديرون الخدمات من كهرباء وماء وطرقات ومواقف بـ«التي هي أحسن». ولكن، في مكان ما من هذه الدولة الظالمة هناك من اتّخذ قراراً أسودَ بأن الإنماء والخدمات والقانون لن توجد خارج العاصمة بيروت وبعض مناطق محافظة جبل لبنان. وفي ما تبقّى من مناطق ومحافظات وأقضية، ومنها الضاحية الجنوبية، لن تحضر الدولة إلا بالهراوات والبنادق والمصفّحات ومحاضر الضبط والتفتيش.
الدولة تغيب عن الضاحية سنوات، تتركها للفوضى والنهب، تساهم في حصار بيئتها، تحمي المجرمين فيها وتجعل منهم مخبرين لدى أجهزتها الأمنية، وتدفع أهلها لحمل السلاح للدفاع عن أنفسهم ضد عصابات الخوات والمخدّرات والسرقة. في الضاحية تتصل عشرات المرات بالرقم المخصّص للطوارئ 112 عند وقوع مشكلة، فلا يحضر أحد وتتطور الإشكالات ليحصل تبادل لإطلاق النار وترهيب للناس، وإن رفع رجل الأمن السماعة على الجهة المقابلة فهو يطلب منك التواصل مع مخفر المحلّة وعدم الاتصال به مجدّداً. في المقابل، تحضر سيارات الدرك مباشرةً في العاصمة بيروت بعد اتصال واحد، ولو كانت الشكوى بتفاهة أنّ أحدهم قام بالتبوّل علناً على كورنيش عين المريسة.
رجال الأمن من درك وجيش إن حضروا فهم مستعدون للقتل مباشرةً، يطلقون النار على الرؤوس
أما إذا قرّرت الدولة إعادة تفعيل خدماتها في الضاحية، إذ لا يصح القول: «الدخول إلى الضاحية»، فهي موجودة ومنتشرة فيها وفي محيطها بعشرات المخافر والثكنات العسكرية، يتعامل عناصرها مع أهلها على أنّهم مذنبون جميعاً، ويحضرون بالخوذ، مدجّجين بالسلاح والعتاد، وبالملثّمين للقتل على الشبهة، وإطلاق النار من الرشاشات الثقيلة على المحال والأبنية، ويبقون من دون حساب. من يصدق أن أجهزة الأمن في الجمهورية لا تعرف مكان كلّ تاجر مخدّرات وسارق سيارات ومطلق نار؟ الإجابة واضحة بالنسبة إلى أكثريتنا نحن أهل الضاحية، الدولة تعرفهم جميعاً، بل ترعاهم، وتريد منهم تحوّل هذه المناطق إلى غابات بؤر من الفوضى غير صالحة للسكن. لماذا؟ لأنّ الدولة اللبنانية لم تقم إلا لخدمة النخبة من السياسيين التجار والمحتكرين، ولأنّ الخيار السياسي لأهل الضاحية لم يكن على هوى رأس الدولة منذ أن وُجدت وتوسّعت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. الدولة ظالمة، هذه قناعة أهل الضاحية منذ انتفاضة 6 شباط 1984، والدولة لا تساهم إلا بترسيخ هذه القناعة أكثر لدى أهل المنطقة.