في الأسابيع الأخيرة، «تغيَّرت الدنيا» على الشيخ أحمد الأسير. وطبيعي أن يشعُرَ بأنه في خطر نتيجة التفاهمات الإقليمية-الدولية ضد الإرهاب. ومن المؤكد أنه تبلَّغ من داعميه الإقليميين عبارة سمعها كثيرٌ من الميليشيويين في «لحظات التخلّي»: «إنتهت مهمتك. دبِّر رأسك»!
المشهد يتكامل بعد الاتفاق الإيراني-الأميركي على النووي. فالمضامين غير المعلنة للاتفاق تخلط الأوراق. وجرى وضع تركيا وقطر وسواهما أمام خيارات صعبة: إما أن تتعاون لضرب الإرهاب، وإما أن تواجه خطر اهتزاز استقرارها الداخلي.
وبدأت تتضح الصفقة: تجري طمأنة دول مجلس التعاون الخليجي إلى أنّ «الخاصرة اليمنية الرخوة» (الحوثيون) لن تشكّل خطراً على استقرارها. وفي الموازاة، تجري طمأنة تركيا إلى أنّ «الخاصرة السورية الرخوة» (الأكراد) لن تشكّل خطراً على استقرار تركيا. والثمن هو انخراط الجميع ضد «الإرهاب».
وتستفيد إيران من هذه العملية لتسويق مبادرات تكرِّس نفوذ حلفائها: الأسد و»حزب الله» وشيعة العراق. وأما الحوثيون في اليمن والأكراد والعلويون في سوريا وتركيا فسيكونون أوراقاً نائمة لبعض الوقت، إذا نجحت الخطة، في انتظار مرحلة جديدة.
إستجاب الأتراك والقطريون، والخليجيون عموماً، لاعتبارات أمنهم الذاتي أولاً، وسحبوا يدهم من الجماعات الإرهابية، وبدأوا التعاون لضربها وإضعافها. وهنا تظهر أزمة الأسير.
فالأسير كان حاجة، في لحظة معيّنة، لخلق توازن رعب في لبنان بين السنّة والشيعة. وأراد الأسير أن يصل إلى مرحلة يقود فيها السنّة، في غياب «المستقبل» آنذاك عن السلطة، ليتوازن مع «حزب الله». ولاحقاً، استوحى الأسير النموذج الانتحاري العراقي، كما ظهر في بعض التفجيرات التي استهدفت السفارة الإيرانية والضاحية والهرمل.
عندما خسر الأسير معركته في عبرا، صيف 2013، كان ذلك انعكاساً لانتصار النهج السعودي على النهج القطري إقليمياً. ولعب «حزب الله» لعبة ذكية استعاد فيها الاعتدال السنّي إلى أحضان الدولة ليتكفّل هو نفسه بالتطرف السنّي من صيدا وإقليم الخروب إلى طرابلس فعرسال فالبقاع الغربي.
بعد معركة عبرا، كانت المعادَلة الإقليمية تسمح بهزيمة الأسير، ولكنها تستبقيه في الاستيداع حتى استدعائه مجدداً. ولكن، بعد النووي، سمحت المعادلة بإقصائه عن المسرح.
وفي الفترة الأخيرة، واجه الأسير استحقاق قيام الأجهزة اللبنانية بـ»تنظيف الأرض» التي يمكن أن يختبئ فيها. ولذلك، كان عليه أن يعيد ترتيب وضعه.
وكان ذلك خياراً صعباً لأسباب عدَّة:
1- لم تعد عين الحلوة ملاذاً آمناً. ففي المخيم، الذي يخرقه عدد لا يُحصى من الأجهزة المحلية والإقليمية والدولية، لا تتوقف عمليات التصفية «الغامضة».
2- لم يعد ممكناً للأسير أن يتَّكل على عدم التنسيق أو التناقض بين الأجهزة اللبنانية للتخفّي، خصوصاً مع انتهاء صراع الأجهزة، وقيام الأجهزة الدولية بتزويدها معلومات حيّة عن هذه الخلايا الإرهابية وتحركاتها.
3- لم يعد ممكناً للأسير أن يتخفّى في أيّ منطقة سنّية في لبنان، لا في طرابلس ولا عكار ولا البقاع. فالأجواء التي سادت قبل معركة عبرا تبدَّلت.
4- لن تقوم أيّ دولة «ربَّت» الأسير باستقباله وتحمُّل المسؤولية عن إخفائه، فيما الجميع يعلن الانخراط في الحملة الدولية لمواجهة الإرهاب.
ولذلك، كان الأسير أمام إرباك أمني واضح أخيراً:
– إما أن يسلِّم نفسه ويأمل في محاكمة عادلة له ولشركائه.
– إما أن يفرَّ إلى بلدٍ لا يشكّ أحد في وجوده فيه، كنيجيريا أو ليبيا، كما تردّد.
– وإما أن يستقرَّ في بلدٍ يعرفه ويحميه، كتركيا التي ربما كان سينتقل إليها عن طريق مصر.
فهل القوى الإقليمية التي «خلقت» الأسير ساهمت في التخلص منه ضمن الصفقة الشاملة بعد النووي؟ وإذا كان ذلك هو الواقع، فلماذا لم تضع هذه القوى «أسيرها» في «المستودع» إنتظاراً لدَور جديد قد يأتي لاحقاً إذا انتهت مفاعيل الصفقة؟
هل تعتقد هذه القوى أنّ الأسير فشل في مهمته وأنه ليس جديراً باستئنافها إذا دعت الحاجة إلى ذلك لاحقاً؟ أم إن هذه القوى تلقّت تعليمات دولية بتسهيل التخلص من دور هذا الرجل نهائياً؟
ستكشف التحقيقات أيّ الخيارات ذهب إليها الأسير. لكن المؤكد أنه وقع في مأزق انتهاء المهمة والدور، كما يقع كثيرون في لبنان. وربما من مصلحة الأسير أن يقع في يد السلطة اللبنانية في هذه المرحلة المعقّدة. فعلى الأقل سيحظى بمحاكمة، وسيحمي رأسه.
كان على الأسير أن يحفظ جيداً القاعدة الذهبية القديمة في لبنان: «عند تغيير الدول إحفظ رأسك». لكنّ مشكلة الأسير وسواه أنهم عندما يكونون في لحظات القوة، ينعمون بدعم هذه «الدول»، لا يستطيعون اكتشاف أنهم مجرد أوراق ستحترق، إلّا بعد فوات الأوان.