لبنان على حاله. ليس بحاجة إلى مؤامرة لتفسير مساراته. ما فيه أشد فتكاً. لديه خبراء في هندسة الخراب، وحيوية فائقة في ممارسة التراجع. بجدارة، يختار الأسوأ. والغريب أن مرتكبي السياسة في لبنان، يجيدون الكلام على الدستور والقوانين وبناء الدولة والانتخابات الرئاسية وضرورة عقد جلسات لمجلس الوزراء وأهمية فتح أبواب المجلس لتشريع الضرورة، وقانون التجنيس وأهمية استبعاد أو استدعاء مشاريع القوانين الانتخابية. وغريب امتثال رجالاته للتهويل الدولي الذي يمس قروضاً معروضة، لم يقرّها أحد، لاستضافة ديون جديدة على دين متراكم، في ظل بلد بلا موازنة ولا محاسبة.
لبنان على حاله. ليس بحاجة إلى خونة. «قدّيسوه» المطوّبون سياسياً في طوائفهم، أفدح وطأة وأكثر خراباً. يتصدّون لقضايا فوق طاقتهم، كانتخابات الرئاسة أو ابتداع صيغة برلمانية مقبولة، فيما كل هذا وما يشبهه، ليس من اختصاصهم. فمثل هذه القضايا، تعيش وتتربّى في أحضان الخارج وتُصدَّر إلى لبنان، في مواسم محدَّدة بالتوافق الإقليمي… ولا خوف مما آلت إليه سلسلة التراجعات، فما يزال لبنان قادراً على التوغل في السقوط. حفرته لا عمق لها. منذ الاستقلال، وما بعد الحرب، وما بعد اتفاق الطائف، وهو يجرجر حاله إلى هاوية بلا قعر.
في طبقته الحاكمة، حكماء، يثرثرون أقوالاً، ويجترحون حلولاً، و «يدوّرون الزوايا» ليصلوا في النهاية إلى «صفر نتائج». حوارات كثيرة عُقدت، طاولات عديدة ناءت بالحاضرين. الدخان الأبيض ممتنع، فيما الحرائق السياسية مشتعلة، بالكلام فقط. من حظ اللبنانيين أن طبقته الحاكمة، لا تلجأ إلى العنف. العنف الطائفي والمذهبي فيه، تمّ تصديره إلى سوريا: «نتحارب هناك»، و«نتساكن هنا». ذروة الإبداع اللبناني. لم يسبقه أحد إلى هذه البدعة.
وفي طبقته الحاكمة، من يرى القول فعلاً، فيُعلي صوته، ويغلظ في قوله تهديداً ووعيداً. تنصرم الحالة. تضيع الأقوال، والشارع الذي انتفض لساعات، انطفأ وعاد إلى طبيعته في استقبال الأقدام، ذهاباً وإياباً إلى لا مكان.
وفي طبقته الحاكمة، جماعة أصولية تنتمي إلى مذهب المال… لبنان محكوم بالمذهبية، والمذهب المالي أكثر نفوذاً وأكثر توحداً من المذاهب المتصارعة سياسياً والمتحدة مصلحياً… الطبقة المالية إذا قالت فعلت. إذا همست سُمعت. إذا علا صوتها يُرْضَخُ لها. تنصح فتُستجاب. لا يُرد لها طلب. تظهر، وكأنها الحاكمة فعلاً، والحكومة بمن فيها، محكومة… تلوّح «الهيئات الاقتصادية» بموقف، فتمتثل الطغمة السياسية، شريكتها في استثمارات السياسة مالياً. معظم رجال المال، رجال سياسة، ومعظم رجال السياسة، أو مفاتيح السياسة، هم رجال مال بلا أعمال.
عاش لبنان تحت تهديدات «باريس واحد» و «باريس اثنين» لسنوات. قالت «الهيئات الاقتصادية» لا حاجة إلى «سلسلة رتب ورواتب». هوَّلت بكارثة تصيب الاقتصاد. استنفرت، بناءً لطلبها، هيئات دولية، للتحذير من مغبة الزيادة، وتأثير ذلك على «الليرة» خصوصاً والاقتصاد عموماً. البنك المركزي نصح بالعدول عن «السلسلة». هم مع «السلسلة» من دون أن يدفعوا كلفتها. عندهم، إفقار الأساتذة وحرمان الموظفين، أفضل بكثير من حرمان أصحاب الامتيازات برامجهم للربح الدائم، في بلد مبرمج كي يخسر دائماً وفي كل الميادين تقريباً. ولقد خسر تقريباً كل شيء. النفايات دلّلت على أن الطبقة الحاكمة، مؤهلة للخسارة (من يتذكّر ربحاً واحداً؟) والفشل (متى نجحت؟) إلا في ميدان تأدية واجباتها إزاء أصحاب المال، الحاكمين الفعليين الدائمين والفائزين المثابرين على تحصيل أموالنا، لتصبح أموالهم، حتى آخر فلس…
الجديد في المشهد اللبناني، ليس ما آلت إليه الخلافات الطائفية والاصطفافات السياسية المستجدّة، عشية وإبان الدعوة لعقد جلسة نيابية، في مجلس نيابي معطوب ومعطل ومجدد لنفسه مرّتين، بهدف الانصياع لفتوى «تشريع الضرورة»… الجديد، هو نزول الهيئات الاقتصادية إلى ميدان التهويل بما ستصاب به الليرة اللبنانية، آخر ما تبقى للبنانيين من طمأنينة نسبية واستقرار رجراج، إذا لم يمتثل لبنان لتشريع إلزامي مطلوب دولياً.
قالت «الهيئات» بلسان مصرفيّيها، بضرورة امتثال لبنان للشرعية المالية الدولية، وإذا لم يمتثل، فإن لبنان سيصبح خارجاً على النظام المالي الدولي، ويتحول جزيرة مالية مشبوهة يُحظر التعامل معه… كان ذلك كافياً لبلوغ التهويل مدى غير مسبوق. معروف أن لبنان، الخاسر في كل شيء، يتباهى بنظامه المصرفي الذي يتمتع، وحده، بربحية صافية وفائقة، في بلد مفلس، وفي عجز مستدام، وفي إنتاجية متناقصة، وفي انسداد أفق تصدير، واتساع أرصفة الاستيراد والإنفاق.
«خافوا أيها اللبنانيون». ضمانتكم الأمنية تهتزّ إذا أصيبت الليرة. وتهزل الليرة، إذا اهتزّ الأمن. وليس لدى اللبنانيين غير هاتين الوسادتين ليطمئنوا إلى يومهم وغدهم. التهويل على اللبنانيين، بقيادة زعماء سياسيين ماليين كبار، وقيادات اقتصادية سياسية كبيرة، هدفه أبعد من إقرار مشاريع قوانين، تحمي لبنان. الهدف، إقرار سلسلة قروض، تثير شهية شبقة مالياً.
«تشريع الضرورة»، لا يبدأ من هنا، إلا إذا كانت الحجّة المالية مدعومة بما يسدّ شهوات السياسيين المالية. الضرورة تقضي أن يتم التشريع لقانون انتخابي جديد، يمهّد لانتخابات جديدة… مثل هذا، يفتح الطريق لإعادة تكوين السلطة. ولا طريق سواها، بعد تلغيم الطريق إلى بعبدا بالمقاطعة، وسد الطريق إلى السرايا بتوافق الأعداء، وبعد انهيار لبنان صحياً في أزمة النفايات.
لبنان صامد وعاصٍ على العنف. يسقط لبنان في العنف، إذا سقطت الليرة.