أكثر من مرّة حصل الفراغ في سدة رئاسة الجمهورية منذ العام 1988، وفي كل مرّة كان الفراغ مرادفًا لاهتزاز أمني كبير. صحيح أنّ القوى الأمنية والعسكرية لا تزال تتابع بعض الأوضاع المتفلّتة وبعض الحوادث التي لا تخرج عن النطاق الفردي والشخصي، ولكن ماذا يمكن أن تفعل هذه القوى إذا حصل تفلّت أمني كبير في أكثر من منطقة؟ وهل يمكن أن يكون أي تفجير محاولة لاستدراج الجيش واستهداف قائده؟
استطاع الجيش اللبناني بقيادة العماد جوزاف عون تجاوز قطوعات أمنية كبيرة وخطيرة لا شكّ في أنّ أهمها كان تحدّي الحفاظ على الأمن خلال انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 في منتصف عمر ولاية الرئيس ميشال عون. هل كان على الجيش أن يقمع الثورة ويفتح الطرقات المقطوعة بالقوة أم أن يراعي المطالب التي رفعها الشعب الذي نزل إلى الشوارع ووحّدت حولها مناطق كثيرة بولاءات وانتماءات متعدِّدة؟
في ذلك الوقت لم تكن مسألة انتخاب رئيس جديد للجمهورية مطروحة ولم يكن تصرّف الجيش مرتبطاً بحسابات رئاسية ولا يسود اليوم أي اعتقاد بأنّ قيادة الجيش الحالية تتحرّك وتتّخذ قرارات قياساً على طرح العماد جوزاف عون لرئاسة الجمهورية. فطريقة تصرّف الجيش منذ العام 2016 هي التي تطرح اسم العماد عون من خلال وعي القيادة للخطر الذي كان يهدد الأمن والحفاظ على تحركات الشارع ومنع تطوّرها إلى انفلات أمني. وكما يأخذ البعض على القيادة أنها تساهلت في موضوع عدم فتح الطرق بالقوة خلال الأسبوعين الأولين من “الثورة”، فهناك أيضاً من يأخذ عليها أنّها لم تمنع الإعتداءات التي تعرّضت لها “الثورة” في أكثر من مكان خصوصاً عند جسر الرينغ وفي ساحة الشهداء. فهل كان هناك حذر موضوعي من أن يؤدي أي اشتباك مع المعتدين إلى اشتباك أكبر مع “حزب الله” لأنّ هويتهم كانت واضحة وخلفياتهم واضحة وقد أوضحها أكثر الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في خطاب 11 تشرين الثاني عندما اتهم “ثورة 17 تشرين” بالتآمر على “الحزب” وبأن السفارة الأميركية هي التي كانت تحرِّكها؟ ما قاله نصرالله عن دور السفارة الأميركية في تحريك “الثورة” قاله أكثر من مرة عن علاقة الجيش بالسفارة الأميركية وبالإدارة الأميركية التي ترعى الجيش وتزوّده بالدعم اللازم ويسرح ويمرح ممثلون عنها في اليرزة.
تفجيرات تحت الضبط
إذا كانت مواجهة مرحلة “الثورة” لم ترتدِ طابعاً أمنياً تفجيرياً بحكم أنّ “الثورة” كانت سلمية فإنّ الجيش نجح في احتواء أكثر من انفجار أمني كبير:
الأول حصل في خلده على دفعتين في آب 2020 ثم في آب 2021 بين عشائر المنطقة وبين “حزب الله” وقد سقط فيها عدد من القتلى ولا يزال الملف في عهدة المحكمة العسكرية حيث تمّ توقيف متّهمين من العشائر من دون توقيف أي متّهم من “حزب الله” الأمر الذي يمكن أن يهدِّد بتوتر جديد في حال لم تكن الأحكام التي ستصدر عن المحكمة العسكرية مخفّفة وقادرة على إقفال الملف.
الثاني كان حادث قبرشمون في 30 حزيران 2019 الذي حصل خلال محاولة عبور موكب رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل في المنطقة وتصدّي مسلحين من أبناء المنطقة و”الحزب التقدمي الإشتراكي” لموكب الوزير صالح الغريب الذي كان باسيل سيزوره ما أدى إلى سقوط عدد من القتلى. والملف لا يزال أيضاً أمام المحكمة العسكرية حيث يوجد عدد من الموقوفين ويمكن أيضاً اعتبار أنّ الأحكام التي قد تصدر يمكن أن تقفل الملف وتنهي القضية خصوصاً أنّ هذا الأمر يمكن أن يؤدّي أيضاً إلى إقفال ملفات قضايا عالقة بين “الحزب التقدمي الإشتراكي” و”الحزب الديمقراطي اللبناني” الذي يرأسه الوزير السابق طلال أرسلان.
الثالث كان في الطيونة في 14 تشرين الأول 2021 الذي حصل بسبب دخول المتظاهرين المطالبين بـ”قبع” المحقِّق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، المؤيّدين لـ”حزب الله” وحركة “أمل” أحد الشوارع المؤدية إلى عين الرمانة وتصدّي عدد من الأهالي لهم وسقوط عدد من الإصابات. ولكن هذا الحادث عاد وتطور عندما تدخل الجيش لإعادة فرض الأمن، الأمر الذي أدّى إلى مزيد من الإصابات. وهذا الملف أيضاً أمام المحكمة العسكرية ويمكن أن يكون الحكم فيه مقدمة لإنهاء ذيوله.
طبعا كانت هناك حوادث أخرى متفرّقة ولكن هذه الحوادث كانت الأخطر وقد لعب فيها الجيش دور الضامن للأمن مع فارق كبير في مسألة حادث الطيونة حيث كان الجيش حازماً في التصدّي للمسلحين الموالين لـ”حزب الله” الذين أطلقوا القذائف والرصاص ولم يلتزموا بالخروج من الشارع.
نصب كمائن
ولكن إذا كان صحيحاً أنّ احتواء هذه الحوادث وأيّ حوادث أخرى بهذا الحجم وبهذه الخطورة كان ممكناً، إلا أنّ الصحيح أيضا أن عوامل تكرار مثل هذه الحوادث بغير أمكنة ممكنة نتيجة بقاء عوامل التفجير قائمة ونتيجة انتشار السلاح في ظل السلاح الأساسي الذي يمتلكه “حزب الله”.
صحيح أيضاً أنّ الجيش مستمر في ملاحقة مهرّبي المخدرات وكانت له خطوات أساسية وجريئة في ملاحقة عدد من الرؤوس الكبيرة، ولكن هذا لا يمنع أن تتدهور بعض هذه الملاحقات إلى انتكاسات أكبر في حال أرادت بعض الجهات نصب كمائن أمنية للجيش ولقائده يمكن أن تشكِّل تهديداً خطيراً للأمن في ظل الفراغ خصوصاً أذا تمّ الأخذ بالإعتبار أن الجيش في كل هذه الحوادث وغيرها ممّا حصل في أكروم وفنيدق مثلا وفي طرابلس ومشغرة وبعض شوارع الضاحية الجنوبية وبلدات بعلبك والهرمل كان يتحرك في ظل العهد والرئيس والحكومات التي تعاقبت. ولذلك إن ما يمكن أن يحصل من انهيارات أمنية في ظل الفراغ يبقى أخطر والأمثلة كثيرة.
من تمرد عون إلى جرود القاع
في العام 1988 لو لم يحصل الفراغ ولو لم يتم تكليف العماد عون برئاسة الحكومة العسكرية لما كانت حصلت “حرب التحرير” ولا “حرب الإلغاء” ولكان العماد عون أنهى مدة قيادته للجيش وخرج إلى تقاعده كأي ضابط آخر خصوصاً أنّ الوضع الأمني في ظلّ الإنقسام الذي كان حاصلًا بعد العام 1987 كان هادئاً ولم تكن هناك أي معارك على خطوط التماس، وكان يمكن أن تحصل التسوية السياسية على البارد وفي ظل استمرار الإلتزام بعدم التفجير.
في العام 2007 في ظل الحصار الذي كان مفروضاً على حكومة الرئيس فؤاد السنيورة والقطيعة مع الرئيس أميل لحود في قصر بعبدا قبل ستة اشهر من انتهاء ولايته، وفي ظل وقوع الفراغ قبل انتهاء الولاية، حصلت حرب نهر البارد وكان الجيش اللبناني مضطراً إلى دفع الثمن الكبير للقضاء على حالة “فتح الإسلام”. ولكن في تلك المرحلة كان قرار الحكومة هو الذي غطّى الجيش اللبناني بقيادة العماد ميشال سليمان على رغم أنّ الجيش لم يكن مجهزًا لمواجهة عسكرية امتدّت من أيار حتى أيلول.
الإنهيار الأمني الأكبر حصل في 7 ايار 2008 بعد سبعة اشهر على انتهاء ولاية الرئيس أميل لحود وفي ظل حكومة الرئيس فؤاد السنيورة المحاصرة والمتّهمة بالتآمر على “حزب الله” في حرب تموز 2006، وقد كانت هذه العملية هي الأخطر بسبب زجّ سلاح “حزب الله” في حرب داخلية بعدما كان الأمين العام لـ”حزب الله” قد أعلن أنّه لا يحتاج إلى توافق داخلي حول سلاحه وأنّ هذا السلاح هو الذي يحمي السلاح وأنّه سيقطع اليد التي ستمتدّ إلى المقاومة.
التطور الأمني الأكثر خطورة في ظل الفراغ الذي نشأ بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في 24 ايار 2014، كان في حرب الجرود بعد الغزوة التي نفذتها التنظيمات الأصولية الآتية من سوريا على عرسال في 2 آب واستهدفت مواقع الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي في ظلّ تدخل “حزب الله” في الحرب السورية والذي بدأ قبل انتهاء ولاية الرئيس سليمان، وفي ظل تنفيذ عدد من العمليات الإنتحارية في قلب بيروت والضاحية الجنوبية والبقاع. هذه الحرب استمرت حتى العام 2017 عندما تمّ حسمها في معركة فجر الجرود التي حقّق فيها الجيش اللبناني انتصاراً نظيفاً على المسلحين في جرود رأس بعلبك والقاع ولكن تمّ منعه من الإحتفال بهذا النصر نتيجة قرار سياسي أتاح لآخر مجموعة من المسلحين الإنسحاب بباصات مكيفة إلى مناطق سيطرة الأصوليين داخل سوريا كتسوية مع “حزب الله” أدّت إلى إطلاق عدد من مقاتليه الأسرى.
الخطر قائم
من بين هذه الإنفجارات الأمنية كان لعملية 7 أيار تأثير على المسار السياسي الداخلي ونتجت عنها “تسوية الدوحة” التي تضمّنت انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة من ثلاثين وزيراً مع إعطاء وزارة المالية للثنائي الشيعي مع الثلث المعطِّل لـ”حزب الله” وحلفائه. وهي التي حكمت عهد الرئيس سليمان واستتبعها “حزب الله” بانقلاب سياسي على هذا التفاهم نتيجة الإنقلاب على حكومة الرئيس سعد الحريري قبل أن يصير الحريري في خلال عهد العماد عون متماشياً مع العهد وحليفه “حزب الله”.
في ظل الفراغ الحالي ووجود حكومة تصريف أعمال يبقى الخطر الأمني وارداً. قد لا يكون هناك خطر مماثل لما حصل في جرود عرسال وراس بعلبك والقاع نتيجة التطورات العسكرية داخل سوريا وابتعاد التنظيمات الأصولية إلى داخل الشمال السوري. ولكن هذا لا يمنع حصول اختراقات أمنية من خلال خلايا إرهابية كما حصل في موضوع “خلية كفتون” التي تمّ القضاء عليها في 28 أيلول 2020 بعد محاصرتها في وادي خالد. وضمن هذا الإطار أيضًا تدخل الحوادث التي تحصل بين العشائر والعائلات في البقاع أو في بعض شوارع الضاحية الجنوبية التي يتدخّل فيها الجيش للتطويق وليس للضبط ومنع تكرارها باعتبار أنّ هناك حدوداً لا يمكنه تخطّيها لأنّها تحتاج إلى قرارات سياسية وغطاء كبير وتوافق.
وضمن هذا الإطار أيضاً تدخل عمليات تسوية الإشكالات التي حصلت في الطيونة وقبرشمون وخلده، بسبب إرادة الأطراف التي لها علاقة بها باحتوائها. ولكن ماذا يمنع أن تحصل عمليات اغتيال بهدف كسر التوازن السياسي السلبي القائم؟ ومن يمتلك القدرة على تنفيذ مثل هذه الإغتيالات؟ وماذا يمنع حصول فوضى أمنية نتيجة التفلّت السياسي والطرق المقفلة نحو انتخاب رئيس وبداية سلوك طريق للحل؟ وماذا يمنع أن تتدهور حوادث أمنية صغيرة إلى تفلّت أمني كبير نتيجة الإحتقان الموجود في أكثر من منطقة خصوصاً إذا كان بعض الأطراف يفكّر في إحراق ورقة العماد جوزف عون ونصب كمين أمني سياسي للجيش وقائده؟ وهل التسريبات المتعلّقة بتوافق دولي عربي محلي على انتخاب العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية تعتبر مقدمة لأحداث من هذا النوع لقطع الطريق عليه وعلى مثل هذا الإحتمال من خلال محاولة إبرازه قبل أوانه؟ هذا إذا كان احتمال ترشيحه حقيقياً.