تزداد الصورة تعقيداً في الشرق الاوسط. كان من الطبيعي أن تزداد الحماوة مع اندفاع واشنطن بالتفاهم مع موسكو في العمل على تركيز قواعد وأسُس الحلّ السلمي في سوريا وتوجيه ضربة حاسمة لتنظيم «داعش» في المنطقة التي أعلنها دولة له.
لكنّ الحماوة شيء والتعقيدات شيء آخر. فالبنود الخلافية تبدو كثيرة وكبيرة، خصوصاً مع ايران اضافة الى تركيا، وأخيراً وليس آخراً الحكومة الاسرائيلية.
فطهران التي تعيش صراعاً داخلياً بين المحافظين المتمسّكين بأولويّة الايديولوجيا الدينية والإصلاحيين المراهنين على الإمساك بزمام المبادرة من خلال الاقتصاد، سجّلت نجاح المحافظين في امتصاص فورة الإصلاحيين وفرملة اندفاعهم.
لذلك مثلاً رفضت طهران التواصل مع واشنطن لترتيب المفاوضات حول سوريا، ونعت مرشد الثورة علي خامنئي الاميركيين بالكذب كونهم يتخلّفون عن بدء تنفيذ التزاماتهم لمرحلة ما بعد توقيع الاتفاق بخلق أعذارٍ شتى.
لكنّ مشكلة التعثّر في سوريا لا تقف عند هذه النقطة فقط. فهناك الاختلاف في وجهات النظر بين موسكو وطهران حيال المسار الواجب اتباعه عسكرياً. فبعد الكثير من الأخذ والرد، ظنّت طهران أنّها حسَمت أمر الهجوم على حلب بموافقة موسكو بعد انتهاء معركة تدمر، لكنها اكتشفت لاحقاً أنّ القيادة العسكرية الروسية تُفضّل و«لأسباب عسكرية» تأجيل معركة حلب الى ما بعد انتزاع الرقة من «داعش»، وخشية حصول مواجهة مباشرة مع تركيا.
وعلى رغم الاصرار الايراني، شرعت موسكو في التحضير عملياً لمعركة الرقة بالتفاهم مع واشنطن، حيث أنشأت قاعدة عسكرية روسية في تدمر لهذه الغاية. وكان معبّراً جداً غياب الطائرات الروسية عن سماء حلب في أوقات حرجة ما ساهم في خسارة بعض المواقع.
لا شك في أنّ الرسالة واضحة، والأسوأ بالنسبة إلى إيران شعورها بأنّ النظام السوري يتفهّم أكثر وجهة النظر الروسية، ربما لقناعته بأنّ الوقع الروسي على الشارع السوري بكلّ تلاوينه افضل من الحساسية الحاصلة تجاه ايران.
لكنّ طهران تُدرك أو تراهن ربما على أنّ لهذه التباينات حدوداً وسقفاً محدداً جداً لا يصل أبداً الى حدود ضرب الخطوط العريضة التحالفية المنسوجة مع موسكو ودمشق، أضف الى ذلك رهانها بأنّ مصلحة الرئيس بشار الأسد تبقى مع ايران كون موسكو المتمسّكة ببقاء الاسد قد تعدّل في موقفها يوماً ما نتيجة منطق التسويات الدولية، فيما طهران لا مصلحة لديها بتاتاً في رحيل الاسد لا اليوم ولا غداً ولا بعده.
التعقيدات الميدانية في سوريا لا تقتصر على مسألة حلب والتباين الروسي – الايراني حولها، بل على الموضوع الكردي والمشاركة الاميركية الى جانب القوات الكردية، ما يعني الكثير للدور الكردي مستقبلاً في شمال سوريا، والواضح كان الغضب التركي من التعاطي الحاصل مع الاكراد وإعطائهم شرعية دولية من خلال التنسيق الميداني الكامل معهم.
لذلك عمدت انقرة الى فتح مخازن الذخائر والإمدادات العسكرية لـ»داعش» والمجموعات المعارضة الأخرى الموجودة في حلب.
وسط هذه الأجواء، استعرض «داعش» عضلاته الارهابية في عمق الساحل السوري في وقت جرى فيه التلويح باحتمال فتح الجبهة الجنوبية لدمشق في حال الاندفاع في اتجاه تطويق مدينة حلب.
طبعاً، يحاول «داعش» التلويح باستعمال كامل أوراقه ليس فقط بسبب حلب بل أيضاً بسبب الرقة.
والمؤشر الأخطر ظهر من اسرائيل، فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أجرى تعديلاً منَح بموجبه وزارة الدفاع او الموقع الحكومي الثاني بعد رئاسة الحكومة إلى أفيغدور ليبرمان، الشخصية صاحبة الطروحات المتطرفة الى حدّ التهوّر.
ونتنياهو بخطوته هذه، نجَح في تحويل الانظار عن الاتهامات التي كانت تُحاصره حول قضايا قانونية. لكنّ الجانب الاساسي من رسالة تعيين ليبرمان كانت وجهته الأسياسة واشنطن، ذلك أنّ المشروع الاميركي يقضي بالانتقال الى التسوية الاسرائيلية – الفلسطينية فور الانتهاء من الملف السوري.
صحيح أنه لم يعد هناك وقت امام الرئيس الاميركي باراك اوباما لإنجاز كلّ ذلك، لكنّ تفاهماً عريضاً حصل داخل الحزب الديموقراطي ويقضي بأن تستمرّ هيلاري كلينتون في تطبيق المشروع المرسوم ولو وفق أسلوبها، بعد أن يكون اوباما قد ركّز الأسس المطلوبة للتسوية السورية، وبذلك وجّه نتنياهو رسالة اعتراض قوية ثانية بعد رسالة أولى حول نهائية ضمّ الجولان. والاهم أنّ مراكز صناعة القرار الاسرائيلي تبدو رافضة لأيّ تسوية سلمية مع الفلسطينيين.
في العام 1996 اغتيل رئيس الحكومة الاسرائيلية اسحق رابين الذي كان يمضي قدماً في انجاز تسويات سلمية. عملية الاغتيال بالتأكيد لم تكن مقتصرة على منفِّذ الاغتيال. تردّد أنّ الاجهزة الامنية التي كانت مولجة بحماية رابين فتحت ثغرة بشكل متعمّد سمحت باغتياله.
عملية تشبه ببعض جوانبها اغتيال الرئيس الاميركي جون كيندي. الرسالة كانت واضحة. رغم ذلك، وبعدما تولّى شيمون بيريز رئاسة الحكومة نفّذ عملية «عناقيد الغضب» في جنوب لبنان لتكون دافعاً له للانتخابات النيابية بما يسمح له بالعودة بقوة الى رئاسة الحكومة واستكمال العملية السلمية. ولكن في 18 نيسان 1996 حصلت مجزرة قانا التي ألحقت ضرراً دولياً واسعاً أصاب بيريز نفسه وأدّى الى خسارته الانتخابات.
رئيس الاستخبارات العسكرية يومها موشيه ايلون أقرّ بعلم الجيش الاسرائيلي بوجود مدنيين فقط في مركز الامم المتحدة. المجزرة حصلت بقذائف مدفعية مزوّدة بصواعق تفجير عند الاقتراب من الهدف. سقطت ثماني قذائف داخل «الهنغار» فيما اخطأت قذيفة واحدة المكان. المجزرة استهدفت فعلياً عملية السلام التي توقفت يومها.
أما الآن فإنّ رسالة وصول ليبرمان مشابهة. صحيح أنّ الجيش الاسرائيلي يُعارض نشوب أيّ حرب الآن لأسباب تتعلق بوضعه الداخلي، وصحيح أنّ تل ابيب لا تستطيع خوض حرب في ظلّ معارضة واشنطن لها، إلّا أنّ الشغب الامني قد يكون السلاح الذي سيستخدمه ليبرمان والمتطرفون الاسرائيليون لإيقاف مشروع التسويات بدءاً من سوريا. وهو ما يعني أنّ امام سوريا مرحلة قاسية وملتهبة ومليئة بالمفاجآت.
وانطلاقاً من كلّ ما تقدم، لا بدّ من التوجّس على مستوى الساحة اللبنانية كونها تشكل امتداداً صامتاً للمشهد السوري.
صحيح أنّ الانتخابات البلدية اقفلت ظاهرياً على خير من دون تسجيل أيّ أحداث أمنية، إلّا أنّ السلطات الامنية اللبنانية تكتّمت على معلومات امنية مرعبة. فأخيراً نجحت الاجهزة الامنية اللبنانية في القبض على انتحاري سوري من ضمن مجموعة نجَحت في الفرار وكانت تتحضّر لتنفيذ تفجيرات إرهابية في احد شوارع العاصمة المشهور برواده الليليّين وبالمطاعم المنتشرة على جانبيه.
وفي التحقيقات، روى الانتحاري السوري الذي ينتمي الى «داعش» أنّ الخطة كانت تقضي ليس فقط بتنفيذ تفجيرات إرهابية برواد هذا الشارع، بل أيضاً باستهداف كنيسة قريبة وتفجيرها بالمصلين.
أبقت السلطات الامنية اللبنانية الخبر بعيداً من التداول الاعلامي ولكنّها وضعت العواصم العربية في أجواء الاعترافات التي حصلت عليها، طالبة تزويدها بمعلومات اضافية متوفرة.
وخلال الساعات الماضية وصلت الى الاجهزة الامنية اللبنانية معلومات عن وجود مخطط لـ»داعش» لاستهداف مناطق لبنانية ولا سيما الضاحية الجنوبية بتفجيرات إرهابية تزامناً مع بدء شهر رمضان، وأنّ معلومات توافرت عن تحريك خلايا نائمة في هذا الاطار.
في اختصار، يستميت «داعش» لتخفيف الضغط عن الرقة. المشاريع المطروحة في سوريا كبيرة ومتناقضة، اسرائيل تريد وقف قطار التسويات من خلال ضربات امنية تؤدي الى مجازر كبديل عن الحرب الممنوعة، ولبنان كان وسيبقى ساحة رديفة للبركان السوري. لذلك لا بدّ أن نقلق.