ليس فتح الطرقات بالقوة نهاية الطريق. فالدرب طويل والضوء في آخر النفق، وخطوة الألف ميل في لبنان تبدأ بثورة. وإذا اعتقدت رؤوس حامية تمارس الانكار منذ بدء الحراك أن الحل الأمني هو السبيل الأمثل لعدم التنازل والتشبث بالمراكز والمصالح فستكون واهمة. ذلك أن هذا الحل، إذا نجح، سيأتي على حساب طرفين يساهمان في بناء الوطن:
الجيش الذي نبنيه بأموالنا وديوننا وجوارحنا ونعوّل عليه نواةً لبناء دولة تستعيد قوامها وكرامتها، والشعب الثائر الذي خرج من قمقم الخوف ولن تعيده إليه لا عصي ميليشيات ولا بنادق تفريق التظاهرات ولا أي اعتقالات.
نعلم أن عيار القمع لا يزال خفيفاً مقارنة بما يحصل في دول كثيرة شهدت ثورات وانتفاضات، لكننا مواطنون في لبنان ولسنا في العراق ولا في أي دولة بنيت على القمع والاستبداد. والمعيار ليس قوة استخدام العنف بل حساسية قرار تلبية رغبات شبه دولة صارت نظاماً، ومؤسسات تمثيلية فقدت شرعيتها الشعبية وباتت تتعكز على قوى حزبية متشددة، ترى مصلحة الوطن من خلال منافعها الضيقة أو مشاريعها الواسعة التي تتجاوز حدود البلاد.
لن ينهزم الحراك حتى ولو نجحت المماطلة في إخراجه من الطرقات، كما لن تربح السلطة إن حشرته على أرصفتها بفائض من القوة. فالثورة التي انطلقت في 17 تشرين ثقافية بامتياز وستتخذ، حتى لو همدت في الساحات، أشكالاً أخرى من الرفض والتميز والابداع في كلّ جامعة ومدرسة وبيت. ذلك ان الوعي الاستثنائي الذي عبّر عنه الشباب المنتفض هو انعكاسٌ لقيمٍ لا يعرفها أهل طبقة سياسية تأسّست قبل 30 عاماً إبان الوصاية والاحتلال وورثت كلّ موبقات الحرب الأهلية والحروب اللاحقة، وتنتمي الى جيل ما قبل الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وقيم العولمة، وجوهرها التشبث بالحقوق الأصلية الواردة في شرعة حقوق الانسان وبينها حق التعبير والعيش بكرامة في كلّ مناحي الحياة.
للذين يراهنون على إخماد ثورة الشباب نقول: هذه ثورة الوعي الجديد بالحكم الرشيد والبيئة النظيفة وحق التعلم للجميع والمساواة الجندرية، تضاف إليها مفاجأة كبرى أهدانا إياها هذا الشباب اللبناني وهي العبور من الطائفية الى المواطنة. فكيف ستتمكنون من الانتصار على هذه الأفكار؟ بأفكاركم البائدة أم بوعيكم الماضوي أم بسلوككم الفاسد وأبواق الهدر والنهب التي تصدح بوقاحة على التلفزيونات وفي شوارع اللون الواحد؟
تفتحون الطرقات وتدخلون في النفق. فطريق الخلاص شقَّه الشباب الذين فضحوا التركيبة ورسموا للوطن خريطة الطريق. صحيح أنها تبدأ من تشكيل حكومة أكفَّاء لكنها ستنتهي حتماً ببناء دولة حديثة مهما طال الوقت ووضعتم في طريق المطالبين بها من عقبات.
في الطرقات أو الساحات، على مدارج الجامعات أو أزقة الفقراء في المدن المحرومة، ستبقى روح الثورة حاضرة وعينها مفتوحة على أي حكومة كيفما تشكّلت ومهما ضمّت من أسماء. ولن تهنأوا لا بموقع ولا بوزارة ولا بصفقة ما دام الشعب قرّر ان يفتح لكم صفحة في دفتر الحساب.