لم تمضِ سوى أيام قليلة على الدخول في الفراغ الرئاسي. لكن ثلاثة عوامل خطرة بدأت تتقاطع: احتقان سياسي يتجّه لبلوغ حدوده القصوى، فوضى دستورية تتفشَّى وسط شلل في السلطتين التشريعية والتنفيذية، وانهيار مالي ونقدي واقتصادي يرفع منسوب الفقر والجوع. وفي هذه المناخات، يصبح طبيعياً السؤال: وماذا عن الأمن؟
واضح أنّ الأجهزة العسكرية والأمنية تتعاطى بكثير من التأنّي والحذر مع تحدّيات المرحلة الآتية. وحتى اليوم، يبدو الوضع الأمني هو المجال الوحيد المضبوط مقابل الفشل والتفلّت السياسي والدستوري والمالي. ولكن، ثمة مَن يخشى ارتفاع مستوى الضغوط الأمنية في المرحلة المقبلة.
فعلى المستوى الداخلي، ليس سهلاً ضبط الأمن الاجتماعي عندما تتفاقم الأزمة المالية والنقدية، ويصل الناس إلى مستويات عيشٍ أكثر تردياً، أي إذا وصل سعر صرف الدولار إلى المستويات المرعبة التي يتمّ التداول بها أخيراً، ومعها تصاعدت أسعار السلع والخدمات في شكل جنوني. وخصوصاً إذا عمدت السلطة إلى تنفيذ «مخططها» بمضاعفة أسعار الخدمات والرسوم والضرائب، فيما تذوب الرواتب والأجور بالكامل.
في هذه الحال، بديهي أن يصبح الأمن الاجتماعي عرضةً للاهتزاز. ولا يترقّب المعنيون انطلاق موجة التوتر الاجتماعي من العاصمة، حيث الوضع أكثر تماسكاً، بل من المدن والمناطق الأكثر فقراً واحتقاناً اجتماعياً، والتي شهد بعضها العديد من الخضّات الاجتماعية والأمنية في السنوات الأخيرة.
وثمة مخاوف من قيام بعض الجهات، ولاسيما الجماعات التخريبية المعروفة، باستغلال حالات الفقر والجوع لاستقطاب الناقمين وتجييشهم، بإدراك منهم أو من دون إدراك. وفي الأيام الأخيرة، كشفت الأجهزة الأمنية عن مزيد من الخلايا الإرهابية الناشطة على الساحة.
وتتخذ المخاوف أبعاداً أكثر عمقاً مع تغيُّر المناخات الدولية والإقليمية وعودة مظاهر التوتر إلى المسرح الإقليمي، بعد فوز بنيامين نتنياهو وأحزاب اليمين المتطرّف في إسرائيل والحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية الأميركية، وانعكاس ذلك على مجمل ملفات الشرق الأوسط ومسارات التوتر بين طهران وكل من إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وتأثيرها على ساحات الاشتباك الساخنة، من اليمن والعراق إلى سوريا ولبنان.
هذه المناخات الجديدة بدأت تلفح تدريجاً منطقة الشرق الأوسط، على حساب مناخات التهدئة والتسويات التي كانت قائمة حتى نهاية تشرين الأول الفائت، والتي أتاحت في العراق ولادة التسوية السياسية الداخلية، وسمحت في لبنان بإنجاز اتفاق الترسيم وتقاسم مخزونات الغاز مع إسرائيل.
ففي ظل المتغيّرات الإقليمية والدولية، حيث تتبدَّد مناخات الحوار والتسوية لمصلحة القطيعة والصدام، ثمة مخاوف من أن يعود لبنان ساحة مواجهة. ومن هنا أهمية الفرصة التي كانت سانحة قبل انتهاء عهد الرئيس ميشال عون وغداة الاتفاق على الترسيم بحراً.
فالستاتيكو الإقليمي- الدولي الذي كان قائماً، والمبني على تقارب الإدارة الأميركية الحالية مع كل من أوروبا وإسرائيل، والتهدئة مع إيران، سقطت على الأرجح بعودة نتنياهو إلى السلطة ومعه المتطرفون، وبسيطرة الجمهوريين على الكونغرس.
ومن المتوقع هو أن يعتمد نتنياهو نهج المواجهة مجدداً مع إيران وحلفائها في الشرق الأوسط، وسيدفع الولايات المتحدة إلى تغطيته، فيما سيعود الأوروبيون إلى المسرح أكثر ضعفاً وشبه مستفردين، كما كانوا خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب.
وهذه المتغيّرات قد تكرّس الانزلاق إلى مستويات أدنى من الانهيار في لبنان، بحيث يُترك البلد لمصيره. وأساساً، لم تعرض القوى الإقليمية والدولية على لبنان أي مساعدة حقيقية إلّا عندما احتاجت إلى توقيعه على اتفاق الترسيم وتقاسم الغاز.
والإهمال الدولي للبنان، في ظروفه الحالية البالغة الصعوبة، سيعني استشراء الفوضى التي تعصف به إلى حدود لا يمكن تقديرها. وفي هذه المناخات، يصبح مبرّراً الخوف من دخول العامل الأمني على الخط، إذ يتاح للقوى المستفيدة من الفوضى أن تتحرّك.
ولكن، ما يقلّص المخاوف الأمنية في لبنان هو أنّ القوى الدولية والإقليمية كافة ما زالت تعتبر الاستقرار اللبناني حاجة للاستقرار الإقليمي، وأنّ الحفاظ على الحدّ الأدنى من السلطة وهيكل الدولة ضرورة لتجنّب المزيد من الفوضى في دول أخرى في المنطقة.
وكذلك، يمكن الاطمئنان إلى أنّ دور الجيش والأجهزة الأمنية ما زال يحظى بدعم القوى السياسية على اختلافها وتنافرها. كما أنّ «حزب الله»، الطرف الوحيد الذي يمتلك قدرات أمنية حقيقية خارج القوى الرسمية، له مصلحة مؤكّدة في الحفاظ على الاستقرار الأمني، أياً كانت الظروف.
لكن المصدر الأبرز للهواجس الأمنية الحقيقية في لبنان يبقى إسرائيل، خصوصاً مع عودة نتنياهو على رأس تركيبة التطرّف المنتظرة. ويخشى البعض سيناريوهات مثيرة ربما تكون قيد التحضير في مطابخ اليمين الإسرائيلي، وتقضي بتفجير العديد من دول الشرق الأوسط، ولبنان ربما يكون واحداً منها. وهذا هو المكمن الأخطر في المرحلة المقبلة.