غالباً ما يسير تدهور وضع الدولة ومؤسساتها يداً بيد مع انتشار الجريمة والانفلات الأمني وسيادة العصابات. لكن هذه المرحلة تترافق من جهة ثانية مع تشدد في الإجراءات الأمنية للسلطة المذعورة من قرب انهيارها يصل الى حدود الهستيريا والخروج الفج على القانون.
في الأعوام القليلة الماضية، قدّم لبنان نموذجاً واضحاً لتجاور الحالتين، التسيّب والتشدد، وتعايشهما وتغذيتهما الواحدة للأخرى. ذلك ان الدولة التي يترقق أداء وظائفها وتتراجع في الإشراف على مهماتها الأكثر حساسية وبداهة، من ازالة النفايات الى حماية الحدود وضمان امن الأفراد، لا تجد رداً على انحسار دورها غير التوسع في اعتماد اجراءات امنية اعتباطية يمليها استنساب أمراء الأجهزة وقادتها وعناصرهم المنتشرين في الشوارع وليس التمسك بما يحدده القانون وما يتعين ان تسير عليه دولة تقول انها تنفذه.
في الوسع سرد لائحة طويلة لوقائع من الأسابيع القليلة الماضية لاعتقالات وحالات توقيف في الشارع لناشطي الحراك المدني الحالي اضافة الى عدد لافت للانتباه لاستدعاءات صحافيين للمثول امام المحققين القضائيين في مسائل تتعلق بممارستهم عملهم الذي يضمن الدستور حريته وحق المواطنين، كافة، في التعبير عن رأيهم.
ثمة حالات أنصفها الاهتمام العام وسارعت السلطات الأمنية والقضائية الى اخلاء سبيل الموقوفين فيها لأسباب شتى، تبدأ من الخشية من زيادة التوتر في ساحات التظاهر وصولاً الى اكتشاف الأخطاء الفادحة في اجراءات الاعتقال. لكن ما يهم في المقام هذا هو الحالات التي تبقى طي الكتمان ولا تثير انتباه وسائل الإعلام وتشمل اللاجئين السوريين والمواطنين «العاديين».
فلا يمر يوم إلا وتحمل الوسائل تلك اخباراً عن اعتقال اشخاص سوريين ولبنانيين للاشتباه بعلاقاتهم بـ «تنظيمات ارهابية» او مشاركتهم في القتال ضد الجيش. والحال ان احصاءً سريعاً لعدد المعتقلين يجعل الحاصل الشهري او السنوي يتجاوز الآلاف. لا تبالي وسائل الإعلام في العادة بمصير هؤلاء الموقوفين ولا بما يتعرضون له اثناء الاعتقال ولا بالإفراج عن الأكثرية الساحقة منهم بعد ايام بسبب غياب الأدلة بعد ان يكون المعتقلون قد تعرفوا على مستوى «الضيافة» لدى الأجهزة.
تقود هذه الممارسات التي تمثل الجزء الغاطس من جبل جليد الإجراءات الأمنية في لبنان في الأعوام الماضية، الى استنتاج يفيد ليس بتغوّل الأجهزة وتحوّلها الى دولة داخل الدولة على غرار ما يجري في الديكتاتوريات العربية التقليدية (والتغوّل هنا ليس دليل قوة الدولة العربية بل العكس)، بل الى تفكّك منظومة السيطرة السياسية والرقابية على الأجهزة الأمنية التي كانت تقوم بها – نظرياً على الأقل – المؤسسات التشريعية والقضائية والإعلامية في نظام شبه ديموقراطي مثل لبنان، وهي المؤسسات المصابة بدورها بما لا يحصيه عدد من أمراض وأوبئة.
وحين يعمد وزراء ورجال دين الى تطويق منازلهم بالحواجز وإلى ابتكار ما لا يخطر على البال من عوائق امام حركة المواطنين، وحين ترفع صور رجال الأمن على المفارق والجسور، وعندما يعتقل مواطن لطلبه رؤية بطاقة تعريف رجل أمن، الى جانب سهولة استدعاء كل من كتب رأياً على موقع «فايسبوك» للمثول امام القضاء، نكون امام سلطة كفّت عن ان تكون سلطة بالمعنى الدولتي للكلمة، وبتنا في إقطاعات يتحكم بها أشخاص يعرفون في العمق انعدام شرعيتهم، ولا يملكون غير استعراض قوتهم على من لا حول له ولا قوة، ما يبرّر توقّع ردود فعل من الطراز ذاته.