لم يكن يخطر في بال سارة أن تضطرّ يوماً إلى اللجوء إلى المهدّئات، فحتى في عزّ الأزمات التي مرّت على لبنان في السنوات الأخيرة، لم تسعَ إلى فعل ما تفعله اليوم. باتت «علاقتها» مع المهدّئات كفرض صلاةٍ، إن لم تتناولها ليلاً يجافيها النوم. أسبوعان كاملان حاولت خلالهما التأقلم مع ما تراه على الشاشة وما تعيشه وتسمعه عن حكايا الذين دفنوا تحت الأنقاض، إلا أنها مع الغارة الأولى التي استهدفت الحيّ الذي تسكنه، قرّرت أن تسلك الدرب الذي سبقها إليه آخرون. كان المشهد مهولاً في تلك اللحظة التي اتخذت فيها قرارها. صوت انفجارٍ قاتل تبعته أصوات وصرخات شقّت سكون الليل الموحش. «كنت أتخيّل وجوههم وأسمع طرطقة عظامهم تحت الجدران التي كانت تتهاوى، فكانت البداية». في اليوم الأول، لم تنم سارة، أكملت ما كانت تفعله «قبل الحبّة»، بتفقد ما تورده المواقع الإلكترونية من أخبارٍ عن الحرب، قبل أن تستسلم في اليوم التالي، ومذّاك تعيش على المهدئات.
مثلها، فعل كثر، فالحرب التي يرونها بأمّ العين، سواء على الشاشات أو بين بيوتهم أو في موت أقاربهم، أفرغت كل مخزون الأمان لديهم وعزّزت الشعور بالقلق والهلع. ولذلك، تشهد الصيدليات اليوم «هجمة» من المواطنين على شراء المهدئات وأدوية الأمراض العصبية لمواجهة أزمةٍ تتعقّد يوماً بعد آخر. ويلاحظ الصيادلة هذا الإقبال تحديداً في مناطق النزوح، حيث زاد الطلب «ممن لم يتناولوا سابقاً مهدئاً أو دواءً بأكثر من 30%، ويوماً بعد آخر تتزايد هذه النسبة»، يقول الصيدلي سهيل الغريب. واللافت، بحسب الأخير، أن هذه الحرب كانت «القشّة» التي قصمت كل شيء، فبعد الأزمة المالية ومعها انفجار المرفأ وعام من الحرب الدائرة في الجنوب، ومن بعدها الحرب الكبرى الدائرة اليوم، «انفجر» الناس. واللافت أنه مع «الانفجار الكبير» اليوم، زادت الأمراض المرتبطة بعوامل نفسية، حيث «زادت بنسبة كبيرة جداً أوجاع المعدة ومشاكلها الناتجة من التعصيب، كما نوبات الهلع panic attack». ويضيف الغريب إلى هذه الفئة، الحديثة في تناولها لأدوية المهدئات والأدوية العصبية، فئة أخرى من المواطنين «المرضى» بالأساس الذين تهافتوا على شراء أدويتهم بناءً على وصفة طبية، خوفاً من انقطاعها. في الحالتين، «الطلب إلى ارتفاع، حتى في المناطق البعيدة عن القصف يتجاوز الطلب عليها الـ ـ20%»، يكمل الصيدلي فرج سعادة.
تختلف نسب تعاطي المواطنين لتلك المهدئات باختلاف المناطق، ففي تلك التي شهدت قصفاً متواصلاً وفي مناطق النزوح، يفوق الطلب المتوقع ثم ينخفض في المناطق البعيدة عن القصف. هكذا، تتأرجح أجوبة الصيادلة ما بين 40 و20%، بحسب أماكن وجود صيدلياتهم. مع ذلك، لا مكان بـ«صفر» مهدّئات. فكل الأمكنة طاولتها الحرب، إن لم يكن بالمباشر، فعبر الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث حكايا النازحين والمقتولين بغارات العدو الإسرائيلي، وحتى في مراكز النزوح، تكبر فئة الممسوسين بالقلق والكآبة، حيث تسهم الظروف الصعبة التي يعيشها النازحون في مراكز الإيواء في اللجوء إلى هذا الخيار. ولذلك، يجنح نقيب صيادلة لبنان نحو اعتبار الطلب على المهدئات أكبر بكثير مما يقال، غير أن ما يقف حائلاً دون تحديد النسب الحقيقية «أنه لا يمكن للصيدلي صرف هذه الأدوية من دون وصفة طبية قانونية، و من جهة أخرى، فإن الطلب عادة ما يواجه بنقصٍ في عدد كبير من الأدوية».
زادت بنسبة كبيرة جداً أوجاع المعدة ومشاكلها الناتجة من التعصيب ونوبات الهلع
وإن كانت لا توجد نسبة بعينها، حيث إن «من المبكر جداً قياس هذا الأمر، إذ يحتاج الأمر إلى ثلاثة أو أربعة أشهرٍ»، بحسب نقيب مستوردي الأدوية وأصحاب المستودعات، جو غريب، إلا أنه في حال الزيادة «فهذا أمر طبيعي في ظل ما نمرّ به». ويصبح هذا الأمر أكثر طبيعية، بالعودة إلى الدراسة التي أجرتها أخيراً جمعية «إدراك» عن «الصحة النفسية في لبنان بعد الأزمات المتعدّدة» والتي شملت 2857 لبنانياً فوق الــ ـ18 عاماً، حيث بينت أن «ثلثَي اللبنانيين يعانون من اضطرابات نفسية على اختلاف أنواعها»، فيما الاضطرابان الأكثر شيوعاً بين تلك الاضطرابات هما «القلق والاكتئاب»، بحيث إن نصف الشعب اللبناني، اليوم، ليس بخير، فيما القلّة منهم تحصل على المتابعة النفسية اللازمة (أقل من 10%).
هل هذا «صحي»؟ بالنسبة إلى الاختصاصية في علم النفس الاجتماعي، نسرين نجم، فإن ما يحدث اليوم «أمر طبيعي، ففي الحروب والأزمات عموماً يلجأ الكثير إلى مهدئات الأعصاب هرباً من الخوف ومن القلق والتوتر أو هرباً من الواقع». وهو طبيعي جداً أيضاً بالنسبة «إلى من لديهم في الأساس اختلال في الصحة النفسية، كالقلق الزائد والاكتئاب وغيرهما من الحالات النفسية». أما ما يجعل من تلك النسب معقولة هي هذه الحرب بحدّ ذاتها «حيث لم نشهد مثلها منذ بدء الصراع بيننا وبين العدو الصهيوني، إن كان بنوعية الأسلحة المستخدمة، أو الحرب الإعلامية النفسية التي تشن على المواطنين من قبل العدو، وارتفاع عدد الشهداء والجرحى، ولذلك لجأ الكثيرون إلى متنفس يريحهم ويعطيهم القدرة على المتابعة بنظرهم». مع ذلك، تستدرك نجم بأن ما أوصل الناس إلى نقطة الذروة، «لم يكن وليد هذه الحرب فقط، بل هي أيضاً نتيجة تراكمات اقتصادية معيشية علائقية متنوعة، ازدادت وانفجرت عند وقوع هذه الحرب»، فصارت الحاجة إلى المهدئات «بديهية»، من دون أن يعني ذلك بالمعنى الاجتماعي النفسي أن «هذه الأدوية تشكل علاجاً دائماً، وخصوصاً أن لها تداعيات كثيرة». وغالباً ما يكون البديل من كل ذلك «العلاج من الداخل بالإرادة وبالعزيمة وعدم الانكسار، وباعتبار أن ما يحصل سينتهي ولن يدوم إلى الأبد، والأهم من ذلك كله الإحجام عن متابعة الأخبار التي تزيد من التوتر والقلق».