لا يمكن فصل الإشكال العقاري الذي حصل بين بشري والضنية عن بقية الإشكالات والمشكلات الحدودية التي تعاني منها البلدات اللبنانية كافة.
تعود الإشكالات الحدودية إلى مرحلة قديمة جداً، ولا يمكن أن تراجع تاريخ أي بلدة إلا وتسمع بإشكالات حدثت وسقوط قتلى وجرحى نتيجتها، من دون أن تتمكّن الدولة من ردع مثل هكذا أحداث وتطورات أو التدخّل للفصل بين المتنازعين.
ويُعتبر النزاع الأساسي على حدود جبل لبنان التاريخي الذي حدده بروتوكول 1861، والذي أنشئت على أساسه متصرفيّة جبل لبنان، وللتذكير، فقد امتدت هذه المتصرفية من جزين مروراً بزحلة ومحافظة جبل لبنان الحالية، وصولاً إلى أقضية الشمال المسيحي وهي البترون والكورة وبشري وزغرتا.
وتواجه معظم البلدات المارونية الموجودة على سفوح سلسلة جبال لبنان الغربية إشكالات حدودية، فبلدة العاقورة تعيش نزاعاً حدودياً مع بلدة اليمونة البقاعية حيث يسيطر أهالي البقاع على ملايين الأمتار المربعة من جردها، ولم يستطع أحد حلّ هذا الإشكال، على رغم أن الملف أصبح في عهدة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.
وما يحصل في العاقورة ينطبق على بلدة تنورين التي يشكّل جردها صلة وصل بين محافظات جبل لبنان والشمال والبقاع، والإشكال الأساسي هو مع بلدة اليمونة، حيث يسيطر أهالي اليمونة على نحو 13 مليون متر مربع من مشاعات جرد تنورين، وقد استفادوا من قوّة الأمر الواقع لتثبيت نفوذهم في هذه المناطق الجردية، مع العلم أن كل الخرائط تثبت ملكية بلدتي العاقورة وتنورين للمشاعات المسيطر عليها بالقوة.
وعلى رغم أن الإشكالات الحدودية في تنورين والعاقورة هي مع بلدات شيعية، إلا أن مشكلة القرنة السوداء في بشرّي فتحت الباب على ما يشبه فتنة بين الموارنة والسنّة في الشمال، خصوصاً أن مواقع التواصل الإجتماعي نشطت وبثّت السموم، في حين أن هذا الإشكال يجب أن يحلّ وفق الأطر القانونيّة، ما دفع النائبة ستريدا جعجع إلى التحرّك وزيارة الرئيس نبيه بري محذرةً من خطورة الوضع، وضرورة القيام بخطوات من أجل منع الفتنة.
وقد كان الوزير السابق اللواء أشرف ريفي أكثر القيادات السنية صراحةً عندما خرج وقال إن هذا الإشكال تفتعله قيادات “8 آذار” من أجل افتعال فتنة، في حين أن التجييش المذهبي والطائفي في الضنية من قبل بعض الجماعات وصل إلى حدّ اعتبار أن استرجاع القرنة السوداء هو بمثابة “فتح إسلامي جديد” وغزوة لأرض النصارى.
وترافق فتح إشكال القرنة السوداء مع محاولة عزل “القوات اللبنانية” وتطويقها، حيث رأى البعض أن اللحظة السياسية مؤاتية للإنقضاض عليها وضربها في المنطقة التي توجعها وذات رمزية بالنسبة إليها.
لكنّ النتيجة كانت معاكسة تماماً، حيث توحّدت كل بشري على مختلف انتماءاتها السياسية والعائلية، ولم يستطع أحد خرق هذه الوحدة، وظهرت بشرّي في صورة الجسم الواحد الرافض للتعدّي على القرنة السوداء.
من جهتها، استوعبت “القوات” الصدمة و”الفخ” الذي حاول البعض نصبه لها، ولم تنجرّ إلى منطق الفتنة، بل تعاملت مع الموضوع بحكمة، ولم تعتبر أن ما يحصل هو صراع سني – ماروني، بل إنّ الموضوع هو خلاف حدودي، وتمسّكت بمنطق الدولة، ولم تنجح بعض القوى بإظهار “القوات” بأنها “البعبع” الذي يريد إبتلاع المسلمين.
وبعد الإتصالات التي حصلت بين قيادات بشري والضنية وتدخّل الجيش واستلامه زمام الأمور ومنعه أيّ أحد من الإقتراب خصوصاً بعد المسيرة التي نظمها شبان من الضنية إلى القرنة السوداء، باتت الأمور في عهدة الدولة بعد إصدار وزير المال علي حسن خليل قراراً سمّى بموجبه أربعة مساحين للمباشرة فوراً بعمليات ترسيم الحدود بين منطقة بقاعصفرين العقارية ومنطقة بشري العقارية. وترك هذا الأمر تردداته الإيجابية في بشرّي حيث رحّب الجميع بالقرار، كذلك الأمر بالنسبة إلى الضنية.
وعلى رغم الإحتكام إلى القانون إلا أن الخوف يبقى من إفتعال المشاكل والأزمات عند كل نقطة حدودية توضع، ومعلوم أن هذه الأمور وإن كانت مرسّمة وتظهرها الخرائط إلا أنّ هناك من لا يرضى بها.
في المقابل، فإن المشكلة الأخطر تظهر في الصراع على الماء، وقد كان الرئيس نجيب ميقاتي واضحاً في هذه النقطة حيث رحّب بقرار الترسيم، موضحاً أنه مع ضمان حق الضنّية بالري والشرب لأن الماء هو الشيء الوحيد الذي لا حدود له وهو حق لكل من يحتاجه.
وكان لافتاً أيضاً تصريح النائب فيصل كرامي من عين التينة بعد إقرار وزير المال المباشرة بترسيم الحدود، حيث اعتبر “اننا نعاني شحاً في المياه وبقاعصفرين والضنية تقومان على بركة عائمة من المياه، وتاريخياً نحن نروي المزروعات بالنباريش، وكل سنة يصار الى تقطيع هذه النباريش، وكل القضية هي بركة مياه تروي المزروعات ولا تحتاج الى كل هذا التشنج الطائفي والمناطقي”.
من جهتها، ترحّب قيادات “المستقبل” الشمالية بخطوة وزارة المال البدء بالترسيم، وتعتبر أن الخلاف يجب ألّا يخرج عن إطاره الحدودي. وترى أن الخلاف على الماء قديم، ويجب أن يُحلّ بالحكمة ضمن إطار حفظ حقّ كل منطقة بالمياه.
وترحّب “القوات اللبنانية” بوضع ملف النزاع الحدودي في عهدة الدولة، ويؤكّد نائب بشرّي جوزف إسحاق لـ”نداء الوطن” أن “القوات” وأهالي بشرّي “لم ينجرّوا إلى النزاع الطائفي، فنحن نريد أن نحافظ على علاقاتنا المميزة مع الجوار وخصوصاً مع أهالي الضنية”.
وبالنسبة إلى مشكلة الماء، يلفت إسحاق إلى أنه حصل إتفاق قديم على أن يمدّ أهالي بقاعصفرين 19 “نبريشاً” لسحب المياه من القرنة السوداء، وعندما يزيد العدد عن هذا الرقم يقوم الأهالي بتقطيع “النباريش” الإضافيّة. ويشير إلى أن القرنة السوداء ترتفع نحو 2400 متر عن سطح البحر، وهناك “نسفات” ثلج موجودة، “وأي مسّ بها وسحب مياهها وفق كل الدراسات يؤدّي إلى إلحاق ضرر بالمياه الجوفيّة، لذلك نحن ضدّ المسّ بمخزون المياه، وأي عمل في هذا الإطار مرفوض”.
ويؤكّد إسحاق أنّ “الدولة هي المرجعية الصالحة للنظر بالإشكالات الحدوديّة، ونحن نؤمن بمرجعيتها، ونرفض في المقابل أي مسّ بطبيعة المنطقة وإلحاق أي ضرر بيئي فيها”.
وبالتالي، فإن المباشرة بالترسيم لا تُنهي الصراع، إذ إن الإشكالات على المياه ستبقى مستمرّة حتى لو وُضعت نقاط حدودية، وهذا الأمر يتطلّب من قيادات بشرّي والضنية معالجته بحكمة وضمن المنطق.