مقارنة سريعة ما بين بعض ملامح الثورة والثوار، وبين السلطة ومتفرعاتها السياسية والأمنية والمذهبيةوالإجتماعية، تفضي بنا إلى الملاحظات والأحكام المبدئية التالية:
– إستمرار الثورة – الإنتفاضة في اندفاعتها الديناميكية المتناهية، واتساع رقعة المؤمنين والمشاركين بها وبنشاطاتها المعتمَدَة والمبتكرة بشكل غير مسبوق في تاريخ لبنان، وصولا بها إلى حدود الإبهار والتألق ومحاكاة اللبنانيين بأسلوب العصر المنزه عن العنعنات الطائفية والمذهبية، والرامي إلى إرساء الدولة على قواعد العدل والمساواة والتخلص من أدران الهدر والفساد وسرقة مال الدولة كحصيلة تجبى من مال المواطنين الغارقين في بحار القلّة والعجز عن تأمين أدنى متطلبات الحياة الكريمة، يقابل هذه الثورة – الانتفاضة: 1) غزوات فئوية مستجدة على مسرح الأحداث، أبطالها شبيحة النظام وأحزاب السلطة، وشعاراتها مذهبية خالصة (شيعة شيعة) في مقابل الشعارات الوطنية المنزهة التي يرفعها الثوار منذ بداية الإنتفاضة وحتى تاريخه. 2) إستمرار ذلك التحالف المستغرب إلى أقصى الحدود، بين أقصى اليمين العقائدية المنتمية إلى دول وانتماءات غريبة طرأت على أجوائنا الوطنية والإجتماعية، وحلّت بتطرفها ونزعتها المذهبية المستمدة من بلد غريب مكان الوجود المذهبي الذي كان سائدا في لبنان منذ نشأته، لتكون رابطا شديد الضغوط والشدّ والإطباق على مجمل المسيرة الوطنية التي سادت لبنان، وكان للوجود السوري «فضل» تبنيها وتنميتها وتعزيز إطلاقها في مجتمعها بما أوصلها بحكم التطورات الدراماتيكية التي توالت في المنطقة إلى موقع القرار في شتى ميادينه. ولمن المستغرب حقا أن يتآلف هذا الإطار المذهبي المتطرف مع إطار مسيحي ساع إلى إحكام ما كان له من سيطرة سالفة، على الكيان اللبناني، لتكون النتيجة سلطة مستغرَبة بتكوينها المناهض والمخالف لمباديء وتطلعات كل منها، مكتفيتين بتقاسم السلطة والمنافع وبالغطاء المعنوي والمادي والسلطوي الذي يشكله كل منهما للآخر.
– الثورة – الانتفاضة واضحة في مطالبها الداعية إلى تخليص الدولة من قيادات وإدارات الفساد والهدر والإنغراس العميق في أحضان المباديء الطائفية والمذهبية، ومنعها من العودة بالبلاد إلى مسيرتها الديمقراطية التي تكاد أن تضع معالمها في هذا البلد المنكوب بتحكم مجموعة من الأحزاب والفئات المتشبثة بطوائفيتها وأرتالٍ تقودها من المنتفعين، مصاصي دماء الأوطان والشعوب. ويكفي أن نستمع إلى الشعارات التي يطلقها كل من طرفي النزاع القائم، كيف أنها تكاد أن تكون محصورة بالشعارات المذهبية الحادة لدى الجهات السلطوية التقليدية وكيف أنها تتجاوزها إلى أبعد الحدود لدى الثوار المنتفضين، لتؤكد في كل إطلاقاتها وتوجهاتها العلنية على وحدة اللبنانيين أرضا وشعبا ومؤسسات ووحدة الوجود المتمثلة بالعلم اللبناني والمتمسكة بجموحها نحو لبنان حر مستقل وموحد ومبني على أسس ومباديء راقية وسامية كتلك المعتمدة في مجمل دول العالم المتحضر.
– ظاهرتان احتفاليتان برزتا إلى الوجود في احتفالات عيد الاستقلال الأخيرة، حيث كان العرض العسكري الإستقلالي هذا العام منطلقا من أوضاع البلاد السيئة ومسيرتها المسرعة في هبوطها إلى مهاوي المأساة السياسية والإجتماعية والإقتصادية، في الوقت الذي برز في ساحة الثورة – الإنتفاضة، (ساحة الشهداء وملحقاتها) عرض مدني غاية في الروعة والإبهار والتحضر، مستعرضا أفواجا منظمة تمثل القطاعات الأساسية من هذا الشعب المنتفض على أوضاعه المتراجعة والمتهاوية، وكم لفت انتباه المواطنين، كما لفت انتباه المشاهدين لعروض التلفزيونات المحلية والخارجية ذلك الفارق بين الهزال المؤسف الذي فرضته الظروف القاسية على الوطن والمواطنين في ما خص العرض الإستقلالي الذي أجري استثناءً في وزارة الدفاع، وحضره عدد محصور من الرؤساء والوزراء والقادة العسكريين، وذلك العرض الشعبي الحاشد الذي شاركت فيه قطاعات الشعب كافة. إنه الفرق المعبّر بين واقع حافل بالثغرات والتراجع والتهاوي في أعماق المجهول المرعب، وآخر ممتليء بالحياة والإطلالة المبهرة والتطلع الطموح نحو مستقبل واعد يعيد هذا الوطن إلى مسيرة الحياة والإصلاح الشامل والأمل والطموح إلى حياة أفضل.
– الشعار الرئيسي الذي ترفعه الثورة – الإنتفاضة، يتمثل في كونها «سلمية» في كل مواقعها وتصرفاتها وحرصها على أن تكون ولو من حيث المبدأ، شاملة لكل قطاعات الشعب وفئاته وجهاته بمن فيهم كل الفئات الشعبية المنتمية أساسا إلى الأحزاب، وذلك إنطلاقا من كونها تعاني مثل الثوار، وبعضها يعاني أكثر منهم وأشدّ. من هنا لا غرابة على الإطلاق في أن نشهد تناغما ما بين كل الفئات الشعبية بما فيه جماهير الفئات الحزبية، وهو أمر يؤكد عليه الثوار المنتفضون كما يؤكدون على أنهم والجهات العسكرية والأمنية، أبناء هذا الشعب ومن رحم المعاناة نفسها والتطلعات ذاتها إلى لبنان أكثر قابلية للحياة والإستمرار والعيش الكريم.
– في المقابل، لقد تصرفت الجهات المناهضة تكرارا بأسلوب عنيف مواجه ومهاجم للثوار سواء في ساحتي الشهداء ورياض الصلح أم في جسر الرينغ أم في مدينة صور أم في بعض أحياء بيروت الغربية، أم في أماكن مختلفة تقع في صلب المناطق المسيحية، الأمر الذي أسفر عن مواجهات واشتباكات حال تدخل الجيش وقوى الأمن دون تطورها إلى واقع خطير يلتهم ما تبقى من استقرار هذا البلد وسلامة أوضاعه، وكانت جملة من التصرفات العنيفة والتهديدات بتحويل الوضع المهتز إلى شارع في مقبال شارع وفقا لاستعادة مكررة لأحداث السابع من أيار وخلفياتها ومراميها. سلمية، هذا ما تقدمه الإنتفاضة الشعبية في مواجهة أسلوب المعالجة والتصحيح والهجوم المنظم والمكسّر والمحطم الذي تقدمه الفئات الحزبية المناهضة لبلادها، في حاضرها الملتهب وتجاه تطلعات الشعب اللبناني الثائر على واقعه الذي لم يعد يحتمل أية ممارسات متفلتة من أي نوع من أنواع الضوابط التي لا بد منها لضمان استمرارية الحياة الكريمة في هذا البلد المنكوب.