بعيداً عن المغالاة في توصيف ما حدث بعد ظهر ومساء السبت الماضي في بعض مناطق بيروت يُمكن القول بأن التظاهرات الاحتجاجية التي نظمتها مجموعات من انتفاضة 17 تشرين أول عام 2019 بعد انقطاع طويل بسبب جائحة «كورونا» قد وضعت البلاد على أبواب فتنة طائفية ومذهبية تذكّر بالظروف التي تسببت باندلاع الحرب الأهلية في نيسان عام 1975، مع فارق أساسي بأن الفريقين المتقابلين هما من اللبنانيين، ولا وجود لفلسطيني أو سوري أو ليبي أو عراقي بينهما.
حرصاً على الاستقرار العام، ومنعاً من أي انزلاق نحو الفتنة، وحفاظاً على روح الانتفاضة وما حققته من مكاسب سياسية ومعنوية، يبدو من الملحّ والضروري اجراء عملية تقييم للتظاهرات الأخيرة، ولأسباب التعثر الذي واجهته، بعد اتهامها بالتآمر على سلاح المقاومة، والذي يُشكّل الخط الأحمر الذي لا يسمح لأحد تجاوزه بالنسبة لحزب الله وحلفائه، نتيجة التقييم الأولي والمباشر يُمكن تسجيل مجموعة من الملاحظات أبرزها: أولاً، استعجلت بعض قوى الانتفاضة العودة إلى تنظيم تظاهرات كبرى ومركزية على غرار ما كان يجري قبل وبعد استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري، دون الأخذ بعين الاعتبار السلوكية التي فرضتها جائحة «كورونا» على أكثرية اللبنانيين، وأجواء الرعب المفتعلة التي فرضتها خطة التعبئة العامة التي اعتمدتها، وسوّقت لها الحكومة.
ثانياً، يبدو بوضوح بأن المجموعات التي دعت إلى تنظيم التظاهرة قد فشلت في وضع خطة منسقة تلتزم بها مختلف الأطراف وتحدّد معظم الشعارات التي يفترض رفعها في الشارع مع تفادي كل المسائل والشعارات الخلافية، وذلك على غرار ما كان يجري في التظاهرات المركزية السابقة، وخصوصاً ما يتعلق منها بسلاح المقاومة أو دور حزب الله في سوريا وفي الصراعات الإقليمية الأخرى.
ثالثاً، لم يجرِ اختيار البرهة المناسبة للدعوة لتظاهرة مركزية كبرى، حيث جاءت الدعوة في ظل أجواء الشك والغموض التي تسيطر على البلاد بسبب تعثر الحكومة في إنجاز أية عملية ضبط للأوضاع المالية والحياتية، وفي ظل عجزها عن اتخاذ أية خطوة إصلاحية مطلوبة من اجراء التعيينات الأساسية، إلى وضع خطة حقيقية لإصلاح قطاع الكهرباء، والذي يُشكّل مطلباً داخلياً ودولياً.
رابعاً، جاء توقيت التظاهرة أيضاً في وقت يشعر فيه حزب الله بأنه مستهدف داخلياً واقليمياً ودولياً، على الصعيد الداخلي بات حزب الله يشعر بأنه مسؤول لتأمين المظلة الواقية للحكومة لكي تستمر في عملها بعد انكشاف مدى عجزها عن تنفيذ ما وعدت به، وبالتالي منع سقوطها تحت ضغط الشارع على غرار سقوط حكومة الحريري. وهناك أيضاً قضية اقفال معابر التهريب والتي نجح الجيش باقفالها باستثناء عدد من المعابر الأساسية، التي يديرها حزب الله في البقاع، أما على الصعيد الإقليمي فإن الحزب يشعر بأنه مستهدف مع حلفائه وعلى رأسهم ايران في سوريا والعراق، حيث تتصاعد الهجمات الجوية الاسرائيلية على الجبهة السورية مستهدفة المواقع الإيرانية وميليشياتها، مع امتداد هذه الهجمات إلى داخل الأراضي العراقية القريبة من البوكمال والميادين في شرقي دير الزور. وتترافق هذه الهجمات مع تشديد العقوبات الأوروبية والاميركية، وخصوصاً بعد تصنيف الحزب في المانيا والنمسا كمنظمة إرهابية، وبعد البدء بتنفيذ قانون «قيصر» الاميركي ضد سوريا، والذي سيكون له تداعيات قاسية على كل المتعاملين معها، وخصوصاً قيادات حزب الله وحلفائهم السياسيين اللبنانيين. في ظل مثل هذه الاجواء من الشك فإنه من الطبيعي أن يأخذ حزب الله حذره، من إمكانية استهدافه سياسياً وأمنياً في لبنان، وذلك من خلال تحريض الشارع اللبناني واستغلال الانتفاضة للمطالبة بنزع سلاحه من خلال تنفيذ القرارين الدوليين 1559 و1701.
خامساً، بدا من خلال التظاهرات المضادة وسلوكيات التحدي التي اعتمدها حزب الله ومجموعات شيعية من حركة أمل، وتوزعها ما بين خندق الغميق وساحة الشهداء وكورنيش المزرعة وخط الشياح وعين الرمانة، والتي لها رمزيتها كخطوط تماس قديمة وحديثة بأنها لم تأتِ كرد فعل مفاجئ، بل هي محضّرة ومدروسة، لكي تحقق النتائج المرجوة منها، وأبرزها إثارة الذعر والرعب من الفتنة الطائفية والمذهبية مع إمكانية الدفع نحو حرب أهلية جديدة.
ان الطامة الكبرى بأن القيادات الداعية للتظاهرة المركزية في ساحة الشهداء لا تملك المعرفة والقدرة على إدراك طرائق عمل حزب الله، فالحزب يعمل بقدرات تنظيمية عالية على الصعيد العسكري والسياسي والمخابراتي، كما يعمل من داخل الحكومة والسلطة كقوة مولجة بتأمين الاستقرار والستاتيكو الحكومي. هذا بالاضافة إلى قدراته لتحريك شارع مضاد للثورة وبشكل حاسم.
سادساً، يبدو بوضوح بأن الحزب قد قرّر تغيير السياسة السابقة التي اعتمدها لمواجهة الانتفاضة، والتي تراوحت ما بين الإقرار بصوابية شعاراتها الإصلاحية ومواجهتها من خلال اتهامها بأنها مخترقة من السفارات الغربية والأجهزة المخابراتية، لقد نجح حزب الله في استيعاب الخروقات التي حدثت في بيئته الحاضنة في صور والنبطية وبعلبك وغيرها من المناطق، وترافق ذلك مع التحضيرات اللازمة للقيام بدور المزدوج: تحصين الوضع السياسي العام لحلفائه وللحكومة التي يعتبرها حكومته، القادرة على تأمين المظلة الشرعية التي هو بأمسّ الحاجة إليها لمواجهة الهجمات الداخلية والدولية ضده، بالإضافة إلى تحريك شارعه لمواجهة الانتفاضة، وتفريق صفوفها. ويبدو بأن الأحزاب ومن بينها تيار المستقبل والحزب التقدمي والقوات اللبنانية والكتائب قد استدركت أبعاد تحضيرات حزب الله للمواجهة، وهذا ما دفعها إلى الإبتعاد عن المشهد إعلامياً وجماهيرياً.
لا بدّ أن تدرك قيادات الانتفاضة ضرورة استعادة تفاصيل هذه التجربة القاسية التي مرّت بها، وأن تجهد لاستخراج الدروس والعبر اللازمة منها، والتي تساعدها على إعادة تنظيم صفوفها وتشكيل لجنة مشتركة مهمتها التخطيط والتنسيق لتظاهراتها ونشاطاتها المستقبلية، مع الأخذ بأن حزب الله ومعه ايران هما في حال استنفار كامل لمواجهة الضغوط التي تمارسها ضدهما بإدارة ترامب، وكل حلفائها في العالم ولبنان، خصوصاً في ظل الاضاءات المتكررة لمكاتب الدراسات الأميركية المتخصصة في هذا الشأن والتي باتت تتحدث عن تشديد العقوبات عليهما وعلى حلفائهما في لبنان.
لا بدّ أن تستفيد قيادات الانتفاضة من الضائقة الاجتماعية التي تتسبب بها الازمة المالية والاقتصادية، ومن التقصير الحاصل على مستوى الدولة في المعالجات بعدما أظهرت حكومة دياب عن عجز شبه كامل في الوفاء بأي من التزاماتها.
إن ارتفاع منسوب الفقر لن يقتصر على جماهير الانتفاضة بل سيشمل أيضاً الطائفة الشيعية وبما فيها بيئة حزب الله، ولا بدّ أن تدرك قيادات الانتفاضة حقيقة وأهمية ذلك، وهو الأمر الذي سيعطل جميع الآليات التي يستعملها الحزب لشد عصب بيئته والتلاعب بعواطفهم من أجل التهديد بالفتنة وباحتمال العودة إلى الحرب الأهلية، من هنا تبرز أهمية عقلنة وتنظيم الانتفاضة للحفاظ عليها وتمكينها من تحقيق أهدافها الاصلاحية على مراحل.