Site icon IMLebanon

الفتنة لا تنتج انتصارات!

لم يألف العرب، في مشارق أرضهم كما في مغاربها، أن يروا صورة المملكة العربية السعودية كدولة محاربة، وكانوا يتجاوزون ـ في الغالب الأعم ـ رأيهم في نظامها السياسي ليغلبوا دلالات موقعها الاستثنائي في نفوسهم باعتبارها الأرض التي شرفها الله باختيارها مهبط الرسالة على النبي العربي محمد بن عبد الله (صلعم)، ودار انطلاقة الدين الحنيف، ويؤمونها آتين من مشارق الأرض ومغاربها ليؤدوا فريضة الحج، أو العمرة، ويطوفون حول بيت الله الحرام في مكة المكرمة، مستغفرين عن ذنوبهم، مؤكدين عمق إيمانهم بالدين الحنيف.

تساهل العرب حتى في نسبة أرض النبوة ومهبط الوحي إلى عائلة أخذتها بالسيف وحكمتها به، ومعه الذهب الأسود، وتجاوزوا موقعها في نفوسهم وفي عقيدة إيمانهم لتجعلها مملكة باسم أسرة وعبر حروب لم يكن الأجنبي (البريطاني بداية ثم الأميركي بعد إقامتها) بعيداً عنها.

ولقد كان الملك المؤسس عبد العزيز قوياً وذكياً وسياسياً بارعاً وصاحب تجربة عريضة وناجحة في توطيد دعائم حكمه، مستوعباً معطيات المرحلة التي أعلن فيها قيام المملكة، بعد «طرد» الشريف حسين من الحجاز، ليستكمل السيطرة على معظم شبه الجزيرة العربية، ناصحاً أبناءه بترك اليمن والابتعاد عنها بعد حملة عسكرية غير موفقة كان هدفها ـ على الأرجح ـ تأمين حدود مملكته أكثر من الرغبة في احتلال اليمن السعيد ذي التاريخ المثقل بإرثه الحضاري العريق والغارق في فقره المدقع.

كذلك فلقد حاول الملك المؤسس أن يبني دولته مستعيناً بأهل الخبرة والكفاءة من النخبة العربية في مختلف الأقطار (سوريا والعراق ولبنان ومصر بعد إنجاز مصالحة تاريخية معها طوت صفحة الحرب التي شنها على الوهابيين في المملكة والي مصر ـ محمد علي باشا ـ بتحريض من العثمانيين، انتهت بطي أعلام الدولة الأولى للوهابيين في الأرض المقدسة..).

هذا في التاريخ، خاصة ما بات منه ماضياً، أما في زماننا هذا فقد نجح الحكم في هذه الدولة ـ القارة والغنية بموقعها الممتاز إلى حد التقديس عند المسلمين، على اختلاف مذاهبهم، والذي يدر عليها من الذهب ربما مثل ما يدره النفط أو أكثر… نجح في أن يختط سياسة عاقلة، لا سيما في عهد الملك الثالث فيصل بن عبد العزيز، الذي غلّب الحكمة والمصلحة على مواقفه، مع شيء من المساعدة لبعض الدول العربية (أو قادتها)… والذي لا ينسى له العرب موقفه الشجاع في الحرب ضد إسرائيل في العام 1973 عندما قرر وقف تصدير النفط، دعماً لمصر وسوريا في حربهما ضد العدو الإسرائيلي.

وبعد فيصل نجح فهد بن عبد العزيز في أن يقدم نفسه «مرجعية عربية»، وهكذا لعب دوراً مميزاً في جمع الملوك والرؤساء العرب على مشروع لم يكن مثالياً ولكنه يحاول تمكين الشعب الفلسطيني من استعادة الحد الأدنى من حقوقه في أرضه تمهيداً لإقامة دولة له على بعض أرضها… كما أنه بذل جهداً طيباً لإنهاء الحرب الأهلية في لبنان، متعاوناً مع الرئيس حافظ الأسد في سوريا… ولقد توج هذا الجهد في استدعاء المجلس النيابي (بمن تبقى من نوابه) إلى الطائف ليعقد فيها المؤتمر الذي رسم خط النهاية للحرب، وبداية عهد استعادة الدولة تحت الرعاية السورية المباشرة. ثم أكمل الملك عبد الله بن عبد العزيز هذا النهج، فتدخل أكثر من مرة لمصلحة السلم الأهلي في لبنان، متجاوزاً حالة الجفاء مع الرئيس السوري بشار الأسد، فاصطحبه في طائرته إلى بيروت لإنهاء وضع متوتر فيها كان يمكن أن ينفجر لولا التدخل الحاسم.

ربما لهذا يصعب على اللبنانيين (بل العرب عامة) قبول السعودية باللباس العسكري، محاربة في اليمن، مخاصمة العراق، معادية سوريا إلى حد دعم منظمات معارضة بعضها متصل «بالقاعدة» وبعضها الآخر يخدم «داعش»، تسرِّع من وتيرة تدمير البلاد التي كان أهلها بقيادة الأمويين عماد الفتوحات العربية..

أما ما لم يستطع اللبنانيون فهمه، فضلاً عن قبوله، فهي هذه الرعونة في التصرف حيال وطنهم الصغير التي أثارت فيه موجة من القلق العارم، وقدمت للمملكة صورة أخرى لم تكن مألوفة لديهم ولا هي تنسجم مع طبيعة علاقتهم بها، خصوصاً وأن مئات الآلاف من أبنائهم قد عملوا ويعملون فيها لبناء نهضتها واكتمال عمرانها.

الأخطر والأصعب على التصديق أن تنزلق المملكة، مباشرة أو بالواسطة، إلى محاولة الإساءة إلى أنبل ظاهرة عربية في هذا القرن، وهي المقاومة الإسلامية المجاهدة، التي أحرزت نصراً مبيناً في تحرير الأرض اللبنانية من رجس الاحتلال الإسرائيلي وطردت جيوشه شر طردة، قبل ستة عشر عاماً، ثم انتصرت عليه انتصاراً مشهوداً حين دحرت حربه على لبنان في صيف العام 2006.

وليست «مكرمة» سعودية جديدة، أن تنتج جهات سعودية شريطاً رديئاً بكل المعايير، يحاول فيه منتجوه وموزعوه والعاملون فيه الإساءة إلى أبرز ظاهرة جهادية، قائد معركة التحرير والمنتصر على العدو القومي للأمة جميعاً، وقائد المقاومة السيد حسن نصر الله.

كذلك فليست «مكرمة» أن تترك السعودية المجال فسيحاً أمام النافخين في نار الفتنة السنية ـ الشيعية في البلاد العربية، بل حيث اجتمع مسلمون من أتباع المذهبين.

ونفترض أن في بلاط الحكم في الرياض من هو أكثر عقلاً وأرجح حكمة من أن ينخرط في هذه اللعبة القذرة لتعميم نار الفتنة بامتداد الأرض العربية من صنعاء اليمن إلى بيروت لبنان… وهي نار ستحرق العرب جميعاً، بتاريخهم ماضياً وحاضراً، وستدمر مستقبلهم، ولن يفيد منها إلا العدو الصهيوني والقوى الأجنبية الطامعة بخيراتها… ومعظمها يتركز في منطقة الجزيرة والخليج.

ولا يستحق لبنان بشعبه الذي قدم إلى السعودية الكثير، مثل هذه العقوبة الرعناء بذريعة العتب على عملية تصويت بلا معنى، في اجتماع بلا موضوع.

ولا تستحق مملكة عبد العزيز آل سعود أن تجد نفسها منخرطة في حروب بلا قضية، في أكثر من بلد عربي، ولا أن يُستدرَج بعض النافذين فيها إلى خوض معارك خاسرة ضد الأهل وفيهم من قدم عرق الجبين والحياة بعيداً عن عائلته لسنوات لكي يسهم ـ بجهده ـ في بناء مملكة الصمت والذهب التي تكاد تخرج على منهج عبد العزيز وأبنائه العقلاء الذين أعطوا بلادهم رصيداً ممتازاً عند إخوانهم العرب، الذين قدموا للمملكة أكثر بما لا يقاس مما نالوه من ذهبها.