لم أسارع يوم استشهادك الجلل للكتابة ولا حتى لأشارك الطوفان الجماهيري الهائل سواء في وداعك أو بالتردد على ضريحك الطيب لانثر الرياحين والعطور وأصعد البخور الخاشع أمامك. ذلك أنه أمام الزلزال الابوكاليبتي (القياموي) الذي صعقك ورفاقك يوم 14 آذار، أصبت انا كما ملايين اللبنانيين والعرب وأصدقائك حول العالم بحالة لا توصف من الذهول والرهبة وتعطل الرؤيا.
لم تكن قديساً كسائر القديسين ممن تزدان جدران الكنائس بصورهم الملونة ولا علّامة في الفقه والدين ممن نجد اضرحتهم مقامات يزورها المؤمنون الورعون من حين لآخر. بل كنت رجلاً ولا كالرجال. رجل راحت تتكشف الحاجة الماسة اليه، والفراغ الذي خلفه، والجرح الذي لا يندمل الذي اصابنا باستشهاده، على امتداد احدى عشر سنة خلت.
انفجر شعبنا بعد استعادة رشده ووعيه في مأثرة يوم 14 آذار الأغر مكان الرد الحاسم بوجه جريمة العصر ليفهم دنيا العرب والعالم انه لم يعد من مكان للنظام الأسدي الدموي بيننا وأن البربرية الى زوال.
كان أخطر ما فيك هو الذي عجّل باغتيالك، عندما رأوا فيك مشروع دولة واعدة عادلة مزدهرة تنبثق من الخراب والدمار والحرب العبثية، لتطلق المؤسسات، وتعمر المدارس والجامعات، وتشيد الطرقات والمستشفيات، ولتبلور الطاقات، ولتدخل لبنان في رحاب الحداثة والعصرنة والتنوير.
ببساطة ولا اصفى، وبكرم لا حدود له ولا مساءلة، وبحكمة العلماء والخبراء وأصحاب التجارب المعمقة، وبفريق عمل قل نظيره، وبرؤيا ثاقبة للطريق الصواب، دخلت يا شهيدنا الفذ دائرة الخطر.
ذلك لأنك كنت النقيض الحازم الصارم للعقول التدميرية ولثقافة الحريق والرماد، ولخطب الكراهية والاحقاد. بل لأنك ناديت بالدولة بوجه الدويلات، وآمنت بلبنان معافى من جميع الاحتلالات الرافض لكل الاملاءات، لبنان المواطنين لا الرعايا، لبنان المتعافي على صغائر المذاهب والجهويات، الآخذ مكانه بين شعوب الارض دخلت دائرة الخطر.
مددت يدك لقضية العرب الكبرى، فكنت الصديق الأوفى للشعب الفلسطيني والداعية الاول لسلام عادل يضع حداً للنزيف المتواصل آن الآوان لايقاف مأساته التي يستقي منها دعاة الارهاب الآن.
اردتها مقاومة وطنية صافية تساند القرارات الكبرى المناطة بالدولة الواحدة بيدها الحرب والسلم يوآزرها جيش وطني قادر على مواجهة المخاطر وشهوة الأطماع.
حقاً قد عدوت رقماً صعباً يومها وعلامة فارقة ومشروعاً كبيراً مديداً فشكلت حاجزاً وعائقاً امام سائر المشاريع التي كان يجري اعدادها لتمزيق لبنان وتفتيت المنطقة العربية بالحروب الجوالة من اقصاها لاقصاها كما نحيا سعيرها الآن، وبالارهاب بكل وجوهه وتلاوينه وطروحاته التدميرية.
قم واطلع يا شهيدنا الكبير بقلبك المعطاء وبأحلامك المشروعة وبكل ما سهرت على تحقيقه كيف اصبحت حال لبنان.
كيف كرّت سبحة الاغتيالات وكيف توالت المآسي، وازدهر الحقد وعمت الكراهية وكيف نتنادى للقتال.
قم واطلع كيف اصبحت البلاد بلا رئيس، وبحكومة ممزقة لا حول لها ولا قوة وببرلمان عاجز متداع غير نادر على اتخاذ القرارات.
اطلع من عليائك لتشهد بأم العين الجمهورية تلك التي اردتها وهاجة وضاءة منارة تتألق في كبد سماء المشرق، كيف اضحت بلاد العتمة والظلمة والفساد والرشوة، عنواناً للطروحات المذهبية ومبارزات الطوائف على ايقاع تكرس النفايات وندرة الكهرباء وازدهار الغلاء والبطالة والفقر وانتشار الجريمة المنظمة ورواج البغاء والمخدرات.
انظر يا رئيسنا الشهيد كيف اصبح وطنك لبنان ملاذاً لقطاع الطرق والخارجين على القانون، وكيف احتل فيه ميزان العدالة وانحرف فيه القضاء. اسمع كيف اصبحت فيه تكال على المنابر شتيمة العرب ويتم التباهي بالتنكر لانتمائه القومي وهويته الوطنية خدمة للاجندات الخارجية وستراً لمخازي الأنظمة الكليانية وشهوات عمائمها التوسعية.
انني مع الكثيرين الآن ابكيك بكاءًا مراً، لأنني أعي وعياً كاملاً انه ما انه ما ان نالوا منك مقتلاً حتى راح الوطن الصغير يهوي في خط انحداري الى هوة سحيقة بلا قرار.
الا انه كوم النفايات والقرى المهجورة وطوابير النازحين صوب المهاجر وصراخ المظلومين التواقين للعدالة وتعاسة الفقراء وجوع العاطلين عن العمل والمهمشين وجميع الامنيين على عناد الوطن الصغير بوجه القوى الظلامية على تلاوينها، ستنبت الازهار من جديد وتورق الأغصان وسننشد معك نشيد قيامة لبنان.