Site icon IMLebanon

محاصصة الداخل وغطاء الخارج

لم تعد الانتخابات الرئاسية في لبنان محطّ اهتمام الدول النافذة وإن كانت محطّ أنظارها. عندما كان لبنان الساحة الوحيدة لحروبه ولحروب المنطقة طيلة خمسة عشر عاماً، كان الخارج، القريب والبعيد، مكترثاً بالوضع اللبناني وبتفاصيل أزماته. أما اليوم فلم يعد لبنان ساحة للحروب، مثلما كان في مراحل سابقة، ولم يعد الغير بحاجة لساحته ما دامت الحروب مشتعلة في المنطقة.

في زمن الوصاية لم يكن ثمة حاجة للاهتمام الخارجي بلبنان ما دام القرار في دمشق وبغطاء إقليمي ودولي. في مرحلة ما قبل الحرب، شهد لبنان انتخابات رئاسية في ظروف داخلية وخارجية اختلفت بين حقبة وأخرى. انتخابات الاستقلال في 1943 عكست في بعض جوانبها صراع نفوذ بين فرنسا وبريطانيا. في 1952، بعد استقالة الرئيس بشاره الخوري في منتصف ولايته الثانية، قلبت دمشق ولندن المعادلة لصالح كميل شمعون، مرشح المعارضة. أزمة 1958 فرضت واقعاً مختلفاً، تمثّل بانتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً توافقياً، استكمالاً لتسوية رعتها القاهرة وواشنطن لإنهاء الأزمة. انتخابات 1964 طغت عليها موازين القوى الداخلية وأدت الى انتخاب المرشح الشهابي شارل حلو. وجاءت انتخابات 1970 بعد مواجهة سياسية حادة في انتخابات 1968 النيابية لصالح مرشح الوسط سليمان فرنجيه.

انتخابات 1976، بعد عام على اندلاع الحرب، عكست المعادلة التي فرضتها الأطراف المسلّحة. وجاء انتخاب الياس سركيس بدعم سوري ــــ أميركي أمراً واقعاً لتجنّب الفراغ الدستوري. انتخاب بشير الجميل في 1982 جسّد الانقلاب الجذري في موازين القوى جراء الاجتياح الإسرائيلي وشكل ذروة التحدّي للطرف المناوئ. بين انتخاب بشير الجميل واغتياله ومن ثم انتخاب شقيقه أمين الجميل، حصلت تحولات مفصلية في سياسة واشنطن وموسكو والدول الإقليمية. في الثمانينيات لم يعد لبنان في سلّم الأولويات الإقليمية والدولية، مع اندلاع الحرب العراقية ــــ الإيرانية والاجتياح السوفياتي لأفغانستان وسواهما من الأحداث عشية انتهاء الحرب الباردة. في نهاية هذه المرحلة بدأ العد العكسي لإنهاء الحرب في لبنان، فكان إقرار اتفاق الطائف بعد مواجهة عسكرية بين الجيش اللبناني بقيادة العماد ميشال عون و «القوات اللبنانية». انتُخب رينيه معوض رئيساً في ظل انقسام حاد واغتيل بعد أيام على انتخابه. بعد انتخاب الياس الهراوي تمّت إزاحة العماد عون عسكرياً وإنهاء الحالة الشعبية التي ظهرّها مع دخول الجيش السوري الى «المناطق الشرقية».

في زمن الوصاية، أتت الانتخابات النيابية والرئاسية محسومة النتائج في ظل «ترويكا» النفوذ والمحاصصة في إدارة البلاد وتوزيع المغانم. رئيسا جمهورية تلك المرحلة، الياس الهراوي وإميل لحود، اختارتهما دمشق ومُدّدت ولايتهما بمعزل عن مضامين السياسة اللبنانية، لا سيما أن القيادات المسيحية الأساسية، المعارِضة والمؤيدة للطائف، كانت مستهدفة ومغيّبة عن القرار. انقلبت المعادلة الإقليمية بعد الغزو الأميركي للعراق في 2003 وتبدّلت الأوضاع في لبنان مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري والانتفاضة الشعبية الواسعة وانسحاب الجيش السوري في 2005. لكن سرعان ما انطلق العهد الجديد بحسابات المرحلة السابقة مع قيام تحالف ضمّ جميع القوى السياسية باستثناء العماد عون الذي استُبعد التكتل الذي يرأسه من الحكومة، على رغم نيله نحو 70% من أصوات المسيحيين. وجاء انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية في 2008 في إطار تسوية متكاملة في الدوحه وبعد أزمة داخلية حادة.

أما اليوم فالخريطة السياسية في لبنان تبدّلت والمنطقة تشهد حروباً تستقطب الدول الكبرى لمحاربة الإرهاب التكفيري. مسائل وأولويات مختلفة تُشغل دول المنطقة والدول الكبرى، وفي مقدمها الأزمة السورية والعلاقات العربية – الإيرانية ومحاربة الإرهاب. سواء ملّ العالم من لبنان أو تَعِب، فإن أزماته لا تقارن بأزمات المنطقة وتداعياتها. محاولة ربط الشأن الرئاسي اللبناني بلعبة الأمم فيه الكثير من المبالغة. السعودية منهمكة بحرب اليمن وبجمع أطراف المعارضة السورية وإيران منشغلة بسوريا وبتطبيع علاقاتها مع الدول الكبرى وليس بتوزيع تركة السلطة في لبنان ما بعد 2005. ومن أراد تصفية الحسابات أو المصالحة من الطرفين أو سواهما فحروب اليمن وسوريا والعراق أكثر جدوى ورمزية من الانتخابات الرئاسية في لبنان.

بعد الشغور الرئاسي الطويل، من البديهي أن يتمّ السعي لانتخاب رئيس الجمهورية. الحراك الرئاسي لبناني بامتياز وكذلك مشروع المحاصصة الجديدة على قاعدة استتباع المكوّن المسيحي لأوصياء الداخل وتأمين الغطاء الخارجي المطلوب. ولهذه الغاية تهون «التضحيات» الى حدّ يصبح فيه التحالف مع «حزب الله» وقتاله في سوريا تفصيلاً ثانوياً. أما داخل فريق أصحاب المبادرة الرئاسية، فلا حساب للحلفاء المسيحيين، ومنهم مرشحان للرئاسة، ما دام الهدف قيام «ترويكا» لا تتّسع للطرف المسيحي، ولأي فريق سياسي انتمى. الرسالة واضحة والثمن مقبول. أما التلطيّ بالخارج فيدخل في لعبة أتقنها بعض محترفي «الكار» من السياسيين اللبنانيين. أزمة الرئاسة في لبنان لم تعد صالحة لأي توظيف مجدٍ في الصراعات الإقليمية، بالمقارنة مع أزمات المنطقة. لكن هذا لا يعني غياب الاهتمام أو التأثير الخارجي بالمطلق، إلا ان حدوده معروفة وكذلك أهميته في حسابات الربح والخسارة الإقليمية. ويبقى السؤال: هل المعادلة الرئاسية المنشودة تسوية لأزمة ولشراكة مفقودة، أم «ضربة معلم» توظّف في سياق المحاصصة المعهودة؟ تلك هي المسألة، قبل الانتخابات الرئاسية وبعدها.