من المفيد تبادل الآراء مع شخصيات يمنية من مشارب مختلفة في مكان قريب من لندن وذلك طوال يومين كاملين كما حصل أخيراً. تكمن أهمّية غريفيث في امتلاكه خبرة طويلة في مجال المفاوضات السياسية واستعداده في ما يبدو لممارسة الصبر. ولكن هل يتحمّل الوضع اليمني كلّ هذا الصبر، مع ما يعنيه ذلك من مزيد من المآسي، أم لا بدّ من الانتقال إلى مرحلة ممارسة الديبلوماسية بطريقة مختلفة تأخذ في الاعتبار أمراً في غاية الاهمّية؟
يتمثل هذا الأمر في أنّ موازين القوى الراهنة لا يمكن أن تُنتج حلاً أو تسوية معقولة تعيد لليمنيين الأمل بعودة الحياة إلى بلدهم تمهيداً للتوصل إلى صيغة جديدة للبلد. مثل هذه الصيغة لا تعني في أيّ حال المحافظة على الوحدة. هذه الوحدة انتهت منذ فترة لا بأس بها بعد سقوط المركز الذي اسمه صنعاء. سقطت الوحدة عندما اندلع القتال في شوارع العاصمة. حل الصراع على صنعاء وشوارعها مكان الصيغة التي تحكمت باليمن، خصوصاً منذ العام 1990، تاريخ إعلان الوحدة. ولكن ما سقط أيضاً مع الوحدة لم يكن المركز وحده، أي صنعاء. سقط أيضاً أي حلم بعودة اليمن يمنين مستقلين، الشمال والجنوب. إذا كان من درس لا بدّ من تعلّمه من تجارب الماضي القريب، فهذا الدرس هو أن الجنوب كان دولة فاشلة منذ اليوم الذي استقلّ فيه في العام 1967. تاريخ الجنوب منذ 1967 وحتّى تحقيق الوحدة كان سلسلة من الحروب الأهلية والتصفيات والانقلابات. تضاف إلى ذلك طبيعة التغييرات التي طرأت على المجتمع منذ الوحدة في 1990 وحرب الانفصال صيف 1994 وصولاً إلى الوضع الراهن الذي شهد ظهور كلّ الأمراض التي تعاني منها المجتمعات المتخلفة لدى سقوط الدولة المركزية بما تمثله من سلطة قادرة على ضبط كلّ أنواع الغرائز.
امّا الشمال، فلا شيء يمكن أن يعيده إلى ما كان عليه قبل الوحدة، في ظلّ الشرخ المذهبي الذي عملت إيران على توسيعه بمؤازرة من الإخوان المسلمين الذين يمتلكون أجندة خاصة بهم تقوم على فكرة أنّهم الحزب الوحيد المنظّم القادر يوماً على أن يحكم اليمن بكلّ مناطقه. هذه الأجندة كانت وراء خطفهم الثورة الشعبية في 2011 من أجل أن يتمكنوا من خلافة علي عبدالله صالح. كانت كلّ نتيجة ما قاموا به الوصول إلى المرحلة الراهنة المستمرّة منذ الحادي والعشرين من أيلول (سبتمبر) 2014 عندما استولى الحوثيون (أنصار الله) على صنعاء. باختصار شديد، لعب الإخوان الدور المطلوب منهم إيرانياً!
لم يعد في الإمكان البناء على الوحدة، مثلما لم يعد في الإمكان البناء على الانفصال. ثمّة حاجة إلى حلول مُبتكرة تحفظ لليمني العادي الحق في العيش بأمان. لكن مثل هذه الحلول المبتكرة، التي قد تكون أقرب إلى نوع من الفيديرالية بين كيانات عدّة، لا يصنعها تجاهل موازين القوى القائم الذي لا بدّ من كسره.
بكلام أوضح، لا يمكن ولوج باب المفاوضات الجدّية من دون الانتهاء من الهيمنة الحوثية على جزء من الأراضي اليمنية بدءاً بميناء الحديدة والمدينة. أي حوار في الظروف الراهنة يعني حواراً من أجل الحوار. لا يمكن للحوار أن يؤدي إلى أي نتيجة ما دام المشروع الحوثي الذي تقف خلفه إيران جزءاً من المعادلة اليمنية. مثل هذا المشروع يستفيد من صبر مارتن غريفيث، خصوصاً أنّه يراهن أيضاً على الوقت قبل أيّ شيء آخر. لو لم تكن «عاصفة الحزم»، لكان الحوثيون ما زالوا إلى اليوم في عدن ولكانوا في باب المندب ولما كانوا محاصرين في الحديدة.
إذا كان هدف مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة تحقيق تقدّم ما، ثمّة حاجة إلى بحث عن طريقة للخروج من موازين القوى القائمة حالياً من جهة والتخلي عن وهم التفاوض مع الحوثيين والعمل على استرضائهم من جهة أخرى. لا يمكن في أيّ شكل تجاهل أن الحوثيين يمثلون جزءاً من الشعب اليمني. لا يمكن إلغاءهم بأيّ شكل. لكنّ ما لا يمكن تجاهله أيضاً أنّهم ليسوا سوى أداة إيرانية ترفض الاعتراف بحجمها الحقيقي فضلاً عن أن ليس لديهم أي مشروع سياسي أو اقتصادي قابل للحياة.
ستبقى الحديدة كمدينة ذات ميناء استراتيجي مطل على البحر الأحمر امتحاناً لمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة. ستظل امتحاناً لمدى جدّيته التي لا مفرّ من أن تأخذ في الاعتبار أن الحوثيين لم يلتزموا في يوم من الأيّام أي اتفاق توصلوا إليه مع أي طرف من الأطراف. كذلك، تعني الجدّية أن القرار 2166 الصادر عن مجلس الأمن يحتاج إلى تعديل، خصوصاً أنّه يقيّد شخصيات يمنية تستطيع لعب دور في التوصل إلى تسوية والمساعدة في البحث عن حلول.
إذا كان المطلوب تبادل الآراء في جنيف يوم السادس من أيلول (سبتمبر) المقبل بين «الشرعية» والحوثيين، فيمكن القول من الآن إن مثل هذا اللقاء المرتقب مضيعة للوقت وسقوط في لعبة الحوثيين التي تقوم على كسب الوقت.
لعلّ أفضل ما يمكن لمارتن غريفيث عمله هو الاستفادة من تجارب المبعوثين اللذين سبقاه، وهما جمال بنعمر وإسماعيل ولد الشيخ أحمد. فشل بنعمر في اليوم الذي رعى فيه اتفاق السلم والشراكة مع «الشرعية» مباشرة بعد دخول الحوثيين صنعاء واستيلائهم عليها. وفشل ولد الشيخ أحمد بعدما اكتشف أن ليس لديه ما يفعله في ظل تمسّك الحوثيين بمواقفهم.
لن يتغيّر شيء في اليمن من دون حصول تغيير على الأرض. ما دام الوضع في الحديدة على حاله، سيظل مبعوث الأمم المتحدة يدور على نفسه. في النهاية، يعرف الحوثيون ماذا يريدون. يريدون السلطة على جزء من الأرض اليمنية وموارد تموّل هذه السلطة خدمة للمشروع الإيراني. تكمن أهمّية ميناء الحديدة بالنسبة إليهم أنّه مورد مالي كبير، إضافة بالطبع إلى موقعه الاستراتيجي. متى يتغيّر الوضع في الحديدة، يمكن المراهنة على بداية التغيير في اليمن. كلّ ما تبقى إضاعة للوقت وكلام من أجل الكلام.
مَن غدر بعلي عبدالله صالح، بحسناته وسيئاته وأخطائه، بالطريقة التي غُدر بها بالرجل، لا يمكن الاعتماد عليه في تحقيق أي تسوية من أيّ نوع.. متى كان الغدر سياسة؟