بكّرت قوى «14 آذار» بحمل بطيخة رفض الأمن الذاتي بيد، وبطيخة اتهام العونيين وأطراف مسيحية بالسعي الى التسلّح المنظّم بمعيّة «حزب الله» وإشرافه باليد الثانية. سلسلة زيارات الوزير جبران باسيل الى المناطق الحدودية المسيحية عزّزت لدى هذا الفريق سيناريو احتضان الرابية للسلاح «الأهلي» والترويج له!
أسقطت هذه القوى من قاموسها ان السلاح الفردي موجود بيد الجميع أصلا، بمن فيهم فريق «14 آذار» وبتشجيع من قياداته أحيانا، والتدريب العسكري «شغّال»، وبأن الرعب من راية «الدولة» السوداء صار عابرا لكل الزعامات والبيوتات الحزبية.. ومن أفضل من وليد جنبلاط حتى يعكس حجم الخوف من الآتي!
مؤخّرا، تكدّست التقارير الأمنية التي ترصد تصاعد التهيّب من احتمال تعرض بلدات حدودية في الشمال أو البقاع لتهديدات من جماعات إرهابية، ومن ازدياد الطلب على السلاح بكل أنواعه، وارتفاع سعر بعض قطع السلاح الفردي، فيما بقيت حادثة عين عطا في البقاع الغربي و«رسائل» شبعا نماذج قابلة للتكرار في أية لحظة.
ويمكن رصد حجم الاستنفار «الأهلي» على الأرض الذي رافق هجوم الإرهابيين على مراكز «حزب الله» في جرود بلدتي بريتال ونحلة في تشرين الاول الفائت، ليَظهَر خيط التنسيق التلقائي الذي يدفع مثلا تجار السلاح والممنوعات في بريتال والعشائر والفعاليات وحتى أنصار الشيخ صبحي الطفيلي، لاتخاذ وضعية الجهوزية لمواجهة احتمالات ومخاطر صارت في الحسبان.
وإذا كان لهذه البلدات البقاعية خصوصيتها الجغرافية والحزبية والعشائرية، فإن المناطق الحدودية التي تتميز بالاختلاط الطائفي المتنوع (رأس بعلبك – القاع، شبعا، قرى العرقوب) يتّخذ الاستنفار فيها أيضا طابع التأهّب تماهيا مع حسابات الأرض التي قد تُبقي الاحتمال قائما بفتح جبهات أو مشاريع جبهات شبيهة بواقع التوتر السائد اليوم في جرود عرسال وبريتال.
منبع الخوف لدى قاطني هذه المناطق يتأتّى أساسا ممّا وراء الحدود ومخيمات النازحين السوريين، ومن الأحاديث المتزايدة عن خلايا نائمة قد تستيقظ في أية لحظة وتتحرّك في وقت واحد بغية استنزاف الجيش، حتى بعد اتخاذ القرار الكبير بالحسم في طرابلس والشمال.
وفي مقابل خطاب «14 آذار» الذي يتّكل على «المؤسّسات والدستور والقانون» لمواجهة «داعش» و«النصرة»، ويتّهم فئة من الشبان المسيحيين بالتسلّح في المناطق البقاعية الحدودية والانضواء تحت سرايا المقاومة، فإن مرجعيات سياسية تُعرب عن ارتياحها لصعوبة توظيف هذه الورقة في صراعات داخلية قد تقود الى الفتنة الكبرى، حتّى لو أن السلاح بيد الجميع، والطلب عليه يتزايد.
خطاب وزير الداخلية الأخير بشأن مخاطر الأمن الذاتي، وإعلان «حزب الله» معارضته العلنية له، عكسا في الواقع حجم تزايد هذه الظاهرة، لكن كثراً يرون اليوم ان «الأمن البلدي» الذي تحدّث عنه المشنوق كبديل من أمن «نحر السيادة» قد لا يكون وحده العدّة الكافية للمواجهة. وما على المشكّكين سوى الدردشة مع الحراس البلديين في المناطق للاستخلاص بأنهم بحاجة لمن يخفّف من روع مخاوفهم.
صحيح أن أمير «جبهة النصرة» في القلمون ابو مالك التلي صار اليوم «شريكا» في جزء من المشهد السياسي، والمخاوف تكبر أكثر من انفلات قواعد اللعبة في عرسال، وتحوّل بعض البقع الحدودية الى بؤر مواجهة محتملة، واحتراف «جبهة النصرة» اللعب بالورقة اللبنانية. لكن على تعقيدات هذا المشهد، معطوفاً على مشهد التسلّح الصامت ومحاولات الاختراق المستمرة للحدود اللبنانية، فإن المراقبين يرون أن استثمار ورقة الأمن الذاتي في مشروع الفتنة أمر صعب بسبب ثلاثة عوامل أساسية:
– وجود قرار حاسم لدى الطرف الأقوى اليوم وهو «حزب الله» بعدم الانجرار الى أي اشتباك داخلي سيرتدي سريعا لبوس الفتنة، كما أن لا إرادة لبنانية لتكرار سيناريو الحرب الأهلية.
– عدم وجود إرادة خارجية تدفع بهذا الاتجاه. وهي إرادة وإن لم تنتج حلولا للاستحقاقات المعطّلة، وأبرزها الرئاسة، إلا أنها تسعى لرفد الجيش بالسلاح ولا تريد حتى اللحظة تحويل لبنان الى عراق آخر أو سوريا أخرى.
– التسلّح يتّخذ حتى الساعة الطابع البلدي و«الاهلي بمحلي»، بمعنى عدم دخوله ضمن مشروع منظّم يدار بأصابع خارجية. هنا لا يكون تفصيلا الاشارة الى ان بعض رجال الدين المسيحيين يطلبون السلاح والرخص.. من أجل مساعدة الجيش عند الحاجة!
عمليا، لا تقف «إنجازات» فريق «14 آذار» عند حدود تحميل «حزب الله» مسؤولية فتنة لم تقع، لكن يروّج لها هذا الفريق ليل نهار. مشكلة الآذاريين، برأي خصومهم، أنهم يتحدثون بمنطق تصفية الحسابات بنسخة 2005، وكأن «داعش» ليست على الحدود، ولا تخطّط لإقامة «إمارتها» اللبنانية.
وخطاب «السياديين» الذي بات ترداداً لكليشيهات أكثر منه تأقلما مع التطورات الأمنية، أسقط من اعتباراته حتى الامس القريب مثلا ان جبهة باب التبانة كانت لا تزال أحد مكامن الخطر على «السيادة» اللبنانية، وذلك بعد أشهر على تواري رئيس «الحزب العربي الديموقراطي» علي عيد ونجله رفعت، ودخول الجيش الى جبل محسن، وتنفيذ الخطة الامنية.
المراجعة الذاتية ليست بندا ملحّا في «أجندة» فريق «14 آذار»، الأكثرية في هذا المعسكر تعتبر أن الحاجة الى المال تدفع الشبان الخائفين الى حمل السلاح بإشراف «حزب الله» لجرعة زائدة من الفوضى، فيما توزيع السلاح يحصل بمواكبة من الاجهزة الامنية! سمير جعجع بكّلها بقوله ان «داعش» هم «مجموعة زعران ومنحرفين ولا يشكّلون خطرا على لبنان». كأن «الزعران» لا يستطيعون جرّ البلد إلى جحيم مواجهة مصيرية كبرى، يردّد أحد خصوم جعجع الذي عاد وتراجع عن كلامه معترفاً بأنه أخطأ التقدير في هذا الخصوص.