«ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم لا يخدعنك من عدو دمعة وارحم شبابك من عدو تُرحم» (المتنبي)
قد تكون الدعاية السلبية من أنجح وسائل الترويج للأفكار والأشخاص، فالهدف من أي إعلان هو إثارة الانتباه وتحفيز الحواس والتشجيع على زيادة الإطلاع، وفي هذا المجال يتساوى الأكثر جمالًا مع الأكثر قبحًا والأكثر بياضًا مع الأكثر سوادًا والأطول مع الأقصر… وكلها عناصر يتمّ النظر إليها بشكل بعيد من الموضوعية، لأنّ رأي الإنسان ومواقفه هي نتاج جدلية معقّدة، تدخل فيها عناصر متعددة، من التربية والعقائد المكتسبة والتجربة الشخصية والحالة النفسية عند اتخاذ الموقف من أمر ما أو اتخاذ قرار ما. بالمحصلة فإنّ خبراء الدعاية يركّزون عادة على كل هذه العوامل ويطورونها بناءً على الموضوع المطروح وعلى مكان وزمان طرحه.
في هذا المجال، قد تكون الدعاية السلبية أو التشهيرية أحد أهم السبل لنيل الشهرة، والتي قد تفوق، في كثير من الأحيان، نتائج الدعاية الإيجابية. من أهم الأمثلة قد تكون العاصفة الهجائية التي أثارها كتاب الباحث الهندي «سلمان رشدي» المعنون «آيات شيطانية» في العالم الإسلامي، مما أدّى إلى حملات التحريم ومنع من النشر، توجّتها حينها فتوى الإمام «آية الله الخميني» بقتل الكاتب لأسباب شرعية معلّلة. قد يكون «آيات شيطانية» في الأساس مجرّد كتاب عادي، من الممكن تسفيهه بالنقد والردّ بالطرق المناسبة. فهو مجرد كتاب، ويمكن، إما تجاهله بالكامل حتى يأخذ الحجم المناسب له بالتضاؤل مع مرور الزمن، أو الردّ عليه بكتاب أو كتب.
لكن، وبسبب الضجة التي أُثيرت حوله يومها، وبالأخص بسبب فتوى الخميني، تحول الكتاب من أكثر الكتب مبيعًا في العالم، وأصبح كاتبه، المغمور سابقًا، أحد أكبر رموز حرّية الرأي في العالم. وكما أذكر، فإنّه تحول إلى نجم من نجوم كبريات المحطات الفضائية لمدة طويلة، شرح فيها عن كتابه، بحيث وصل مضمونه إلى كل بيت. كما أنّ الحظر الذي فُرض على هذا الكتاب في الدول الإسلامية، جعله من القطع النادرة التي تمّ تداولها في السوق السوداء لسنوات. وربما بيع منه في بلادنا، التي نادرًا ما تقرأ، أضعاف ما كان متوقعًا له، لولا الدعاية التي حصل عليها. وأخال سلمان رشدي يقول يومها للإمام الراحل: شكر الله سعيكم بحكم الإعدام.
مثال آخر هو كتاب «شيفرة دافينتشي»، للكاتب الأميركي «دان باون»، الذي استفاد إلى أقصى المدى من الاعتراض الكنسي على فحواه، لأنّه يمكنه أن يقوّض الكثير من الأسس التي قامت عليها الكنيسة. وكلنا نعلم اليوم أنّ ملايين النسخ بيعت على خلفية الاعتراض، فصار براون مليونيرًا بين ليلة وضحاها، وما زال حتى اليوم يحصد الملايين من سلسلة كتبه الجميلة والمشوقة. ولو سألناه اليوم عن رأيه بالتحريم الكنسي لكتابه، لكان ردّ بالتأكيد: شكرًا قداسة البابا.
وهكذا، وفي السياق ذاته، فإنّ الحركة الصهيونية استفادت إلى أقصى الدرجات، من عملية التشويه لصورة اليهودي التي سادت أوروبا في القرون الماضية، مما أدّى إلى ردّة فعل عكسية، حولّت العالم الغربي إلى مدافع شرس عن الصهيونية في النصف الثاني من القرن العشرين، وسمحت عمليًا باستباحة فلسطين وشعبها، برعاية غربية. وتستفيد الحركة الصهيونية حتى يومنا هذا، من استمرار إنكار البعض لمحرقة «الهولوكوست»، «غير الحقيقية» حسب رأي «روجيه غارودي»، الكاتب الفرنسي الإسلامي اليساري، الذي حوكم في فرنسا بسبب كتابه عن الخرافات المؤسسة للدولة اليهودية، يفنّد فيها بشكل علمي واستقصائي، بطلان احتمال حدوث محرقة بالحجم الذي صورته الدعاية الصهيونية. هذا بالطبع، مع عدم إنكار فظاعة جرائم النازية بحق كل أنواع الأقليات في أوروبا، ومن ضمنها اليهود والسلافيون وحتى ذوي الإعاقات العقلية من الألمان ذاتهم.
هذا ما شكّل نوعًا من الدعاية السلبية، التي تُبقي ذكرى المحرقة حية في الذاكرة اليهودية من جهة، والأهم أبقتها حية في ذاكرة العالم، لتبقى إحدى أهم وسائل الإبتزاز النفسي والعاطفي لجمهور الغرب. كذلك كانت الهيصة الإعلامية التي أثارها «محمود أحمدي نجاد»، الذي سمّاه منشد «حزب الله» «نجاد يا رؤى الأمم»، عندما قال في أيام حكمه، أنّ مسألة المحرقة كانت وسيلة للدعاية الصهيونية، دفعت الملايين من الأوروبيين إلى تذكّر العذابات التي تسبب بها أجدادهم وآباؤهم لليهود «الأشكينازيم» عبر تاريخهم، وربما دفعت الآلاف من اليهود، أحفاد ضحايا «دميانيوك» و»إيخمن» الافتراضيّين، إلى تلمّس الأرقام المدموغة في المعتقل النازي على ساعد إحدى الجدات كتعويذة مقدّسة، تحلّل الدوس على حقوق الشعب الفلسطيني.
منذ سنوات أيضًّا، أُلغيت حفلات «جاد المالح» في لبنان، وكنت شخصيًا لا أعلم عنه شيئًا في السابق، ولا حتى يهمني النوع الفني الذي يقدّمه، الذي قد زايد الكثير من الفرنكوفونيين ومدّعو الفرنكوفونية في مزاياه. لكنني بالتأكيد، أصبحت فضوليًا لأعرف عنه المزيد، بعد السلسلة الترويجية السلبية، التي تولّتها محطة «المنار» عن هذا الشخص، مما أدّى إلى إلغاء حفلاته وبالتالي، تحويل هذا الفنان إلى «بطل» من أبطال حرّية الرأي وإلى «ضحية» جديدة من ضحايا الهولوكوست، لكونه يهوديًا، وبالتأكيد إلى شاهد جديد على غبائنا وعلى «كرهنا للإبداع»، بالإضافة إلى «تعصّبنا الأعمى» في المسائل الدينية. لم يفد أحد بعدها محاولة تأكيد أو إثبات أنّ جاد المالح هو من مؤيّدي تصرفات جيش الاحتلال الإسرائيلي، لأنّ وسائل الإعلام العالمية استقبلته ليتحدث عن تجربته البطولية، في مواجهة الإرهاب الفكري، الذي مورس ضدّه من قِبل حفنة من «العرب والمسلمين»، ومن بعدها، انتشرت أعماله في السوق السوداء في لبنان، عبر الأقراص المدمّجة التي قد طُبع بعضها ربما في الضاحية الجنوبية! وعلى الأرجح فقد قال جاد المالح: «ألف شكر للمنار».
واليوم، أتى الاعتداء على سلمان رشدي في نيويورك إلى وضعه من جديد في واجهة الاهتمام العالمي، وعاد كتابه المنسي في غياهب الزمن، ليتصدّر قائمة الكتب المطلوبة والمباعة على حساب «أمازون»، وعاد الحديث عن تعصب الإسلام وعنفه واستحالة ترويض أتباعه، ليتناسبوا مع العالم اليوم. وعاد رشدي و»شارلي إيبدو» ورسام الكاريكاتور الاسكندنافي والمخرج الهولندي، الذين تناولوا الإسلام ورموزه، إلى أبطال العالم لحرّية الرأي والتعبير، فيما عقولنا غارقة في الجهل والتعتير.
ما هو أكيد هو أنّ سلمان رشدي، عندما سيخرج من المستشفى، سيقول لهادي مطر، خريج مدارس «حزب الله» اللبناني، شكر الله سعيك!