اللافت في عاصفة المواقف والسجالات التي فجرّها نشر لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي لنسخة مختصرة عن تقرير يكشف وحشيّة الأساليب الاستجوابية التي تعتمدها وكالة الاستخبارات الأميركية في سياق «الحرب العالمية على الارهاب» أنّ محور الأخذ والرّد انزاح بسرعة شديدة من السؤال المتعلّق بحقوق الإنسان الأساسية وبخطورة افلات جهاز استخباراتي من التحكّم المؤسساتي به في دولة ديموقراطية، إلى السؤال المتعلّق بمنسوب الفاعلية، فاعلية هذه الوسائل غير الأخلاقية في انتزاع الاعترافات المطلوبة في أسرع وقت، والفاعلية بالمعنى الأشمل، في ما يتّصل بالتغلّب على الإرهاب. بل أن سؤال الفاعلية عاد ونظّم السؤال الأخلاقيّ على هواه: من يرى في التعذيب المنهجي، النفسي والبدني، فاعلية، أخذ ينظّر لأخلاقية ما يراه، على افتراض أنّك تنكر الانسانية على أشخاص معينين، «الارهابيين»، لأجل انقاذ العدد الأكبر من الناس، «الضحايا المفترضين للهجمات الارهابية»، في حين أنّ ما يظهّره تقرير السيناتورات بشكل واضح هو انّ مردود هذه الأساليب جاء بخساً ويدلّ على مستوى من الفوضى والعشوائية في المنظومة الاستخباراتية الأميركية ككل.
بشكل عام، يمكن القول أنّ المعسكر اليميني، من عتاة الجمهوريين في أميركا الى مارين لوبين مثلاً في فرنسا التي كان لها موقف دافعت فيه عن «ضرورة إرغام الخاضعين للتحقيقات على النطق بالقوة»، تحلّى بجرأة واضحة في إظهار اللامبالاة بالشق «الحقوق انساني» من الموضوع، وهذا غيض من فيض تراكم يميني في غير مكان من العالم منذ سنوات، يتعامل مع «الحقوق انسانوية» كما لو كانت قصوراً ادراكيّاً ونقيصة سياسية، في حين أنّ مفهوم الديموقراطية تجري إعادة قولبته ليكون «الديموقراطية بشروط مكافحة الارهاب» أو «في حدود ما تسمح به مكافحة الارهاب».
ولعلّ أسوأ شكل لالتقاط الصخب الغربي حول التقرير الأميركي عربياً هو القول أنّ أساليب التعذيب المتبعة في أقبية «وكالة الاستخبارات المركزية» الأميركية لا تساوي شيئاً قياساً على أساليب التعذيب تحت نير الديكتاتوريات. هذه المقاربة «الزجلية» لموضوع بهذه الخطورة لا تعدو كونها كاريكاتوراً سمجاً للمقاربات التبريرية في اميركا والغرب لأساليب التعذيب، التي يكشف التقرير خواءها من ناحية الفاعلية، وتحولها الى رصيد من التضليل الذاتي الذي استفادت منه الجماعات والشبكات الجهادية عبر العالم.
فما ينساه «الزجالون» المهوّنون من فظاعة ما يُرتكب في المعتقلات الأميركية أنّ «الحرب العالمية على الارهاب» أسّست لمنظومة أمنية عالمية واحدة. فحتى لو أن «مكافحة الارهاب» تختلف بمنطقها وأساليبها واستهدافاتها بين اميركا والاتحاد الاوروبي وروسيا والصين والهند، ثمة حيز كبير من التداخل والتبادل بين أنماط المكافحة هذه. هذا وتتمثّل قيمة التقرير الحالي في أنّها أحرجت بعض هذه المنظومة، حين أبرزت استخدام «السي اي اي» لسجون سرية في بولونيا وليتوانيا ورومانيا وغيرها، وبشكل أظهر خفّة «السيادة الوطنية» في هذه الدول.
كما أنّ كل المصارف في العالم تنتمي الى منظومة مصرفية ومالية جامعة، رغم كل الاختلافات في الأنظمة المصرفية داخلها، كذلك مكافحات الارهاب عبر العالم، من اميركا الى روسيا والصين، ومن اسكاندينافيا حتى أقبية التعذيب العربية، تشترك في منظومة عالمية.
بل انه الاختلاف الأساسي عن زمن الحرب الباردة. في زمن الحرب الباردة، كانت منظومتان استخباريتان اساسيتان تتصارعان على امتداد العالم، وكان يمكن لكل واحدة دعم نظام في دولة أو جماعة مسلّحة غير محقّقة ضد نظام. السوفييت يدعمون الساندينيين والاميركيون يدعمون الكونترا. السوفييت يتدخلون لإنقاذ النظام الشيوعي في افغانستان من نفسه اولاً والاميركيون يدعمون المجاهدين.
اليوم، وعلى الرغم من ارتفاع نوعي للتوتر بين اميركا وروسيا، ومن الصراع المسلّح غير المباشر بينهما في اوكرانيا، وعلى الرغم من المبارزة المستمرة بين الجاسوسيتين الاميركية والروسية، فإنّ «منظومة مكافحة الإرهاب» توجد فضاء مشتركاً، وهذا الفضاء المشترك يضغط بقوّة ضدّ مرجعية «حقوق الانسان»، التي يباهي نظام الحكم في روسيا باستصغار شأنها، في حين تبشّر بها أميركا لشباب «هونغ كونغ»، وتتبرّع بها لفاشييي حزب سفوبودا بكييف، وتعرض عنها حيال هذا النظام دون ذاك، ثم يأتي التقرير الأخير ليكشف في فنون التعذيب في «السي اي اي» كمية وافرة من الثقافة الاستعمارية، زائد كمية وافرة من تطبّع أميركا بعادات وتقاليد «العالم الثالث» الأمنية.