IMLebanon

مجلس الشيوخ: « أيمتى بتستحق هالكمبيالة»؟

نص الدستور اللبناني المنبثق من “اتفاق الطائف” في المادة 22 منه على الآتي: “مع انتخاب أول مجلس نيابي على اساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية”.

هذا المجلس كان الغي بموجب الدستور الصادر 17/10/1927ولكن اعيد انشاؤه بموجب القانون الدستوري الصادر في 12/09/1990 والذي قضى بتعديل الدستور بإدخال الاصلاحات التي قضت بها “وثيقة الوفاق الوطني” المعروفة بـ”اتفاق الطائف” الذي أقرّ في اجتماعات النواب اللبنانيين في مدينة الطائف السعودية في ايلول وتشرين الاول 1989

لم يكن سهلاً على “لجنة العتَالة” التي صاغت “إتفاق الطائف” ان تصوغ مادة مجلس الشيوخ بسهولة اذا سبقها نقاش في من سيتولى الرئاسة، المسيحيون حبذوا ان تكون لهم لتكون مناصفة في الرئاسات بين المسلمين والمسيحيين: رئاستا الجمهورية ومجلس الشيوخ للميسيحيين مقابل رئاستي مجلس الوزراء ومجلس النواب للمسلمين. والبعض اقترح ان تكون رئاسته عرفاً للطائفة الارثوذكسية كونها الطائفة الرابعة الكبرى.

والبعض الآخر أقترح ان تكون عرفاً للطائفة الدرزية وان تكون نيابة رئاسته للطائفة الكاثوليكية في اعتبار ان الطائفة الارثوذكسية تتولى نيابة رئاستي مجلس النواب ومجلس الوزراء.

ولكن يبدو ان بعض الاعتراضات من هنا وهناك زالت يومها لكون ان الجميع تلاقوا على صعوبة، وربما استحالة انشاء مجلس الشيوخ لما يتطلب الوصول اليه من اجراءات

وعندما كانت “لجنة العتالة” تصوغ المادة الخاصة به خلال اجتماعاتها مستعينة بخبرة النائب الراحل نصري المعلوف الدستورية والقانونية نصري معلوف، وبعد إنجاز صياغتها وقراءتها على مسامع الحاضرين، سأل احد اعضاء اللجنة بين مزح وجد: “وين بتنصرف هالكمبيالة”؟

موحيا ان تنفيذها صعب دار هرج ومرج في صفوف المجتمعين وتساؤلات عن خلفية هذا السؤال، فأجاب احد الحاضرين السائل قائلاً: “عندم يتوفى الوالد”. فاراد الجميع عندها معرفة قصة الكمبيالة و”الوالد” من السائل والمجيب فاختصر احدهما القصة بالاتي:

روي ان احد الاثرياء الكبار كان لديه ابناء وحيدا يغدق عليه الدلال والعطاء إلى ان اكتشف يوماً فيه نزهة الاسراف والتبزير وعدم تحمل المسؤولية، بحيث انه كان ينفق كل ما يعطى من مال على نزواته وشهواته غير مقدر للنعمة وبلا حساب للآتي.

فاستدرك الوالد الامر ذات يوم وقرر ان يوقف عنه العطاء، ويعطيه القليل القليل، لكي يتحمل المسؤولية لأنه اذا استمر على هذا المنوال سيبدد الثروة التي سيرثها بعد موته على مذبح شهواته ونزواته…

لكن الإبن بدلاً من ان يرتدع إنبرى إلى الاستدانة من عامة الناس ويسطر لهم لهم “كمبيالات” بالمبلغ الذي يستدينه منهم غير محدد موعد استحقاقها. وكلما سأله أي من دائنيه: “ايمتا بتستحق هالكمبيالة”؟ يرد: “عندما يتوفى الوالد”. أي عندما يرث والده بعد موته… وعليهم ان ينتظروا الى ذلك الحين عير المعلوم.

بعض الذين شاركوا في اجتماعات الطائف قالو يومها في “واقعة مجلس الشيوخ” اذا جاز التعبير، ان هذه المادة لن تنفذ لأنه يستحيل الاتفاق على من سيتولى رئاسته وعلى صلاحياته وعدد اعضائه، وانه لو كان يصلح لما الغي عام 1927، فضلاً عن انّ البعض قد لا يروقه تركيب سلطة فوق السلطة التشريعية التي جعل “الطائف” ولايتها 4 سنوات وزاد عدد اعضائها وجعله مناصفة بين المسلمين و المسيحيين، بل انّ البعض قال ان اعضاء هذا المجلس سيكونون حكماً مناصفة كالمجلس النيابي، ولكن قبل كل ذلك، لن يتفق على انشائه، وان اتفق فانّ دون الوصول إلى انشائه مسيرة طويلة وشاقة بل شائكة بسبب الطائفية.

فانشاء هذا المجلس وفق ما تنص المادة الخاصة به يفرض “انتخاب مجلس نيابي على اساس وطني لا طائفي”، وحتى ينتخب هذا الاخير ينبغي ان يكون الغاء الطائفية السياسية قد حصل حسبما تنص المادة 59 من الدستور التي تفرض “على المجلس النيابي المنتخب على اساس المناصة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق الغاء الطائفية السياسية وقف خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تضم بالاضافة الى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسة وفكرية واجتماعية. مهمة هذه الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بالغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي الوزراء والنواب ومتابعة الخطة المرحلية”.

ومنذ العام 1992 وحتى الان انتخبت كل المجالس النيابية على اساس المناصفة لكن اي منها لم يتخذ “الاجراءات الملائمة لتحقيق الغاء الطائفية”.

علما ان الرئيس الراحل الياس الهراوي وجه خلال عهده رسالة إلى مجلس النواب يطلب فيها العمل على اتخاذ الاجراءات لالغاء الطائفية، ولكن القيامة قامت ولم تقعد في اليوم التالي. ورئيس مجلس النواب نبيه بري بادر اكثر من مرة في هذا الاتجاه ولكنه اصطدم بعقبات وتعقيدات كثيرة.

عام 2002 ومع الاعتراضات المسيحية الكبيرة التي نشأت ودفعت بكركي ولقاء “قرنة شهوان” الى رفع الصوت مطالبين بالانسحاب السوري من لبنان والاعتراض على الواقع السياسي السائد وعلى الاداء الحكومي و تغييب المسيحيين عن الدولة مع استمرار سجن الدكتور سمير جعجع ونفي العماد ميشال عون، إندفع أركان السلطة الى طرح موضوع الغاء الطائفية وانشاء مجلس الشيوخ وتطبيق اللامركزية الإدارية في محاولة لصرف الانظار عن مطالب وبكركي و”قرنة شهوان”، ولكن اي من هذه القضايا لم ينفذ. فترك الامر طي النسيان منذ ذلك الحين الى ان اعيد طرحه في الامس على طاولة الحوار… فالى اين من هنا يا ترى؟

وهل توفي الوالد، أي الطائفية، حتى تستحق الكمبيالة ليخرج اللبنانيون الى دولة الانسان؟

الطائفية ما تزال معششة في النفوس، فكيف لها ان تزول من النصوص؟