انتظر ضبّاط في قوى الأمن الداخلي منحَهم قِدماً استثنائيا للترقية إلى رتبة أعلى لسنوات طويلة. مرّت سنة تلو أُخرى من دون جدوى. بعضهم بقي ينتظر منذ عام ٢٠٠٧ مع ما يحمله الانتظار من ثقلٍ وظُلم. ففي مقابل هذا القِدَم، كان قد بذل بعضهم من دمائه وعرّض آخرون حياتهم للخطر في حرب الإرهاب. من نهر البارد وعين علق عام 2007، إلى ملاحقة خلايا تنظيمي «جبهة النصرة» و«الدولة الإسلامية» بعد أحداث سوريا، استنفر عشرات الضباط لمواجهة مباشرة وغير مباشرة. ولعلّ أصعبها كانت الحرب الباردة التي خاضها هؤلاء باللحم الحي والقلق والتوتّر والتهديد اليومي مع ما يعنيه ذلك من فاتورة دفعوها من حساب عائلاتهم ورصيد صحتهم في السباق القائم بين الأمن والإرهاب. فمجرّد تقدُّم الأخير خطوة واحدة سيعني نشر موتٍ محتّم بقي يتهدد لبنان لسنوات. لقد أعطت مراسيم «الأقدميات» (الصادرة قبل نحو 10 أيام، وشملت نحو 61 ضابطاً من قوى الأمن الداخلي وعشرات الضباط في الأمن العام وأمن الدولة) بعضاً من حقّ ضبّاط في الأمن الداخلي قدّموا الكثير. فعلى مدى السنوات الـ11 الماضية، صدرت عشرات المراسيم التي تمنح القِدم الاستثنائي لضباط في الجيش والاجهزة الأمنية الأخرى، باستثناء قوى الأمن الداخلي بسبب الخلافات السياسية التي تعطّل مجلس قيادتها.
بحسب قانون تنظيم قوى الأمن، «يجوز منح الضابط قدما استثنائيا للترقية يتراوح ما بين ثلاثة اشهر وسنتين بسبب اظهاره بسالة فائقة في العمليات الحربية او في عمليات حفظ النظام وتوطيد الامن، وما بين ستة اشهر وسنة واحدة بسبب تميزه مرارا بالشجاعة الفائقة او البراعة الخارقة في اكتشاف الجرائم وتوقيف المطلوبين للعدالة» (المادة 86 من القانون 17 / 1990). وما يستحق التوقف عنده لدى الغوص في مرسومي الأقدميات في الأمن الدخالي، حجم المحسوبيات والإكراميات التي توزّع يمنة ويُسرة. ففي مقابل الضباط الذين كافحوا الإرهاب والتجسس الإسرائيلي وحققوا الكثير في مواجهة الجريمة، يحضر قادة سرايا الحرس (مجلس النواب والسراي الحكومي ووزارة الداخلية). ماذا فعل هؤلاء؟ «أظهروا بسالة فائقة في عمليات حفظ النظام وتوطيد الأمن أثناء قيامهم بمهمة تأمين مواكبة الشخصيات المهمة المكلّفين بحمايتها»! هل يستوي من وصل نهاره بليله متنقلاً من شارع إلى آخر لتنفيذ عملية دهم لتوقيف انتحاري مع من كان جُلّ مهمته «تسجيل المواعيد»؟ ليس انتقاصاً من أي ضابط قد يحقق الكثير إن كُلِّف به، لكن نُقل الرائد ملحم نعمة إلى المديرية العامة لرئاسة الجمهورية بموجب برقية فصل. أي إنجازٍ قد يُحققه الضابط في مديرية عامة كهذه، سوى أنّه كان مرافقاً للعماد ميشال عون منذ ما قبل انتخابه رئيساً للجمهورية؟ كذلك الأمر مع قائد سرية الحرس الحكومي الرائد محمد البرجاوي، وقائد سرية حرس مجلس النواب العقيد عمار حاطوم، وقائد سرية وزارة الداخلية الرائد بلال عمر. ماذا أنجز كل واحد من هؤلاء حتى يُمنح قدماً استثنائياً سوى أنّ أسماءهم دسّتها السياسة كي تُمرّر الأقدميات، فضلاً عن أنّ مجرّد تعيين الضابط في مركز كهذا يُعدّ مكافأة لا تُقدّر بثمن؟
ليس هذا فحسب، فالمرسوم المبني على اقتراح المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان لم يُغفل الضابطين المقرّبين منه؛ النقيب عبد الحليم عاكوم والنقيب خالد قدّورة. أحدهما في مكتب عثمان والآخر مسؤول مواكبته. ماذا أنجزا؟ هل تُعَد مرافقتهما لعثمان إنجازا يفوق شجاعة من انفجرت قنبلة الإرهابيين بين قدميه في شارع «المئتين» ونجا بأعجوبة رغم الجراح العميقة التي أصابته؟
وعلى سبيل المثال لا الحصر أيضاً، النقيب كارلوس عويس مُنح قِدماً استثنائياً لمدة سنة. ما هو الإنجاز الذي مُنِح لأجله أقدمية سنة؟ ذُكِر في المرسوم أنّه «ثابر على القيام بكافة الأعمال الموكلة إليه على أكمل وجه خلال أوقات الدوام الرسمي وخارجه وتميّز بالاستقامة والضمير المهني»! هكذا باتت الاستقامة في قوى الأمن إنجازاً خارقاً، ووجدت المديرية بين ضباطها من يتحلّى بها فكافأته بمنحه أقدمية سنة!
ملاحظة: كما في قوى الأمن كذلك في الأمن العام وأمن الدولة. الحُظوة السياسية والعلاقة الشخصية و«التوازن الطائفي» هي السِمات الأساسية التي يحوز بموجبها كثير من الضباط المكافآت، إلى جانب من يستحقونها فعلاً. فلنتخيّل أن يُمنح ضابط نُقل من مركزه على خلفية شبهات فساد أقدمية استثنائية أو أن يكافأ آخر فبرك إنجازاً بالترقية إلى رُتبة أعلى!