IMLebanon

هو أيلول الشهداء… تحيّة ورسائل ووعد “العهد لكم”

32 عاماً على أوّل قداس في حريصا

 

هو أيلول، هو الشهر التاسع من السنة، هو شهرٌ مبلول، كما كل أشهر السنة الأخرى، بكثير كثير من دموع الأمهات على فلذاتٍ رووا الأرض مبتسمين حين ناداهم الواجب. شهداء القوات اللبنانية لهم أيلول وكل أشهر السنة وكل العمر الذي ما زال يخفق في صدور أحياءٍ لم ولن ينسوهم أبداً أبداً وأبداً. لهم غداَ قداس ولهم كل يوم صلوات الى الربّ، الى خالق الكون، بأن يكونوا الى جواره حيث لا وجع ولا ألم ولا غدر ولا قلق ولا خوف ولا يأس. هو أيلول العهد الى شهداء القوات اللبنانية بأن مسيرتهم باقية باقية باقية. هو أيلول. هو القداس الثاني والثلاثين في أيلول الثاني والثلاثين (منذ أيلول 1991) الذي سيشهد عهداً وتعهداً الى من نذروا العمر والممات رافعين راية: السيادة والحقّ والمقاومة والإنتصار.

 

هو واحدٌ من اللقاءات السنوية التي ينتظرها القواتيون على نار. هو يوم يشعل له البخور وترتجف له القلوب رهبة، وكيف لا، وهم سيحضرون في هذا اليوم بالروح والنبض والعقل والضمير. وهل أجمل من اللقاء مع شهيد؟ فكيف إذا كانوا شهداء على مدّ الإشتياق والعمر والأحلام؟

 

أتتذكرون أيلول العام 1991؟ أتتذكرون 15 أيلول 1991؟ يومها زحف لبنان وقوات لبنان ومقاومو لبنان الى سيدة لبنان في حريصا، مفترشين أقدام العذراء، رافعين البيارق، مصلين، بعيونٍ تلمع وقلوب دافئة. يومها إنتظر المحبّ والكاره صوت القوات التي إن حكت تهتز الأرض. نعم، كان وما زال كلام القوات يحمل أبعاد المرحلة ويؤسس مع كل ايلول الى مرحلة حساسة تمرّ فيها البلاد، والبلاد مشحونة من زمان وزمان بمراحل حساسة لا تنتهي. يومها، عند أقدام السيدة العذراء، صلى الجموع كثيراً وأتت كلمة قائد القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع لتُحدد معالم المرحلة الصعبة، بعد أشهر طويلة إلتزمت فيها الصمت. كانت القوات عارفة أن الحجر الرابض على الصدور ثقيل لكنها أرادت أن تقول أنها لن تترك لبنان وتدير الظهر وتسكت. كانت مدركة تماماً أن لبنان واقع تحت السطوة السورية لكنها لن توضب الأمتعة وتمضي تاركة شهداءها يموتون مرتين. يومها وقف قائدها وقال: «يا شهداءنا الأبطال، في البال أنتم والقلب وضمير القضية، إنكم معنا كما الذخائر تحفظ في الصدور، وكما النذور تقطع في الشدائد. وقدرنا أن نكون مشروع وطن، مشروع إنسان، مشروع مستقبل. ودعوتنا أن نكون للشهادة قوافل قوافل، تبدأ من فجر التاريخ ولا تنتهي إلا ببزوغ لبنان منارة للحرية وهو المرصود، المحكوم عليه بمطهر أرضي طويل قبل ساعة القيامة». وهذا حقا ما صار. كثيرون نكروا لهؤلاء الشهداء الحياة وهم أموات في الحياة. أما الشعب فلن ينسى والتاريخ لن ينسى. قالت القوات يومها كلمتها ولم تمض على الرغم من محاولات إلتزمت تقويض دعائم الدولة اللبنانية وفضّلت الإستعاضة عن الإتفاق اللبناني- اللبناني بالعمق، بتوافق بعض المراهنين على تقسيم بعض المصالح في ما بينهم. فأيّ لبنان جديد كان يُعدّ له طالما إنتظرناه على جمر؟ يومها قال قائد القوات: «إن لبنان وطننا وفيه باقون، إن مجتمعنا عظيم وله عاملون، إن إنساننا طيب ومن أجله مستشهدون».

الدولة أولاً

مرّ عام. وجاء أيلول ثانٍ ثم ثالث ثم وصلنا الى العام 1994. إنتهت الحرب في الشكل اما في مضمون الإلغاء فلا. وكررت القوات إرادتها: الدولة… وجود الدولة… لكن القلق استمرّ عميقاً. فُجرت كنيسة سيدة النجاة. وشعر الجميع وكأننا في أيام حرب وأن قراراً صدر بإلغاء «القوات» لكنها أبت أن توضّب وجودها وتغادر. وكم تذكر الجميع يومها كلام المطران جورج خضر: «نحن هنا لسنا لنسكت. اجل هناك من هو قادر على ان يكمّ افواهنا. وسنجعلها تنطق في أماكن أخرى». ألغيت «القوات». وسجن قائدها. حكاية طويلة طويلة. وأتى أيلول 1994. هو أول أيلول والقوات، منذ خمسة أشهر، في الإعتقال. وصفها «منحلة». والشباب يلاحقون. القداديس عن نفس الشهداء ولبنان والحرية والعدالة تلاحقت سرّا. والقمع أيضا. ويومها تذكر الجميع ما قاله سمير جعجع خلال الاسر في دير القمر: كثيرون يتمنون أن ندخل عالم النسيان ليرتاحوا.

وأصبحت ذكرى البشير محطة القداس الرسمية التي تطلّ منها وعبرها القوات اللبنانية. أصبحت ترفع مع بشير، مع الصليب، صلواتها للشهداء. شباب كثيرون أصرّوا على إحياء المحطة السنوية على الرغم من كل القمع، نجحوا أحياناً، اخفقوا أحياناً، لوحقوا غالباً، لكنهم لم يفقدوا الأمل. والبطريرك مارنصرلله بطرس صفير أصبح وحده جامع المسيحيين. ووصلنا الى العام 2000. حصل قداس الشهداء في ميفوق في ظلال يافطات كُتب عليها: ابداً أوفياء… نبقى. وصلت ذخيرة سانت تريز الى لبنان في أيلول 2002. كان المسيحيون بحاجة ماسة الى إستعادة النبض وتجديد الوفاء الى شهدائهم. وفي أيلول 2004 كثرت معجزات سيدة بشوات. ومعها تكثفت الصلوات. وأطلت ستريدا سمير جعجع في الثاني عشر من أيلول 2004 من حريصا مع حشود كثيرة للصلاة عن روح الشهداء في ظل هتاف: «بشهادة سيدة بشوات الحكيم راجع عالقوات». ويومها قالت ستريدا في كلمتها «كفى كفى تقديم القوات كبش محرقة على مذابح أصنام السياسة المحنطة التي تقضم مقدرات الوطن وأحلام الناس». وطالبت بثوابت بينها: إطلاق السجين البريء سمير جعجع كي يطلق الوطن من سجنه».

مرحلة جديدة

وانطلقت سنة 2005 صاخبة. استشهد رفيق الحريري. قتلوه تحت عين الشمس. عاد ميشال عون من منفاه وخرج سمير جعجع من معتقله واستعادت القوات حريتها. وفي العاشر من أيلول 2005 قال الحكيم في مناسبة القداس السنوي لإحياء ذكرى شهداء القوات اللبنانية، وذلك بعد 14 عاما على قداس العام 1991 و11 عاماً وأكثر على اعتقاله: «إنها مرّة جديدة نقف وجها لوجه أمام شهدائنا الأبرار لكنها ليست مرة ككل المرات. إنها المرة الأولى التي يستطيعون أن يقولوا لنا فيها: أرأيتم، في نهاية المطاف لا يصحّ إلا الصحيح ولا يموت حقّ وراءه مطالب» وارفق ذلك بوعد «القوات ستكون في هذه المرحلة طليعة منيرة لخدمة جميع اللبنانيين» أضاف «إستحقاقات كثيرة وكبيرة في انتظارنا لكن لا تقلقوا فبالتعاون المحب الصادق الشفاف مع الجميع نستطيع مواجهتها».

وانطلقت مرحلة جديدة. قداس الشهداء عام 2006 جرى في 24 أيلول في بازيليك سيدة حريصا ويومها قال الحكيم: «نحنا هالسنة مجتمعين مش بس تنحيي ذكرى شهدائنا الأموات، بس كمان لنحيي ذكرى الأحياء، لأن حياة كل واحد منا كانت شهادة. كل واحد منا كان بحالة مواجهة كاملة» وأعلن «نحن بحاجة الى إكمال مقاومتنا لأنو الوضع الداخلي بلبنان ما ثبت بعد. ومن يراهن على ضعف المقاومة خاسر. ومن يراهن على إضعاف الدولة خاسر» وتوجه الى المسيحيين بقوله: «ما تتركوا حدا يخوفكن ولا حد ييأسكن ولا حدا يحبطكن فالشعب الذي قطع مئات وآلاف السنين من الإضطهاد والمجازر والصعوبات والمآسي ما رح تصعب عليه يتخطى هالزمن الرديء» أما بالنسبة الى سلاح حزب الله فقال: «عندما نبني الدولة نجد حلا للسلاح وعندما نجد حلا للسلاح يصبح بالإمكان قيام الدولة». كلمة جعجع تلك هدرت مثل إعصار ووضعت كثيراً من النقاط على الحروف.

وتتالى مجيء أيلول. جميلٌ جدا هو أيلول الذي تفوح فيه مع الرياحين والغار والبخور دماء الشهداء الأبرار، على صدى الأغنية- الترتيلة «حقّ الأرزة الـ عم نرويها بالدم وبدموع الإم… شعلتكن ما رح نطفيها لو بتشتي الدنيي همّ». 32 عاما مرّت على أوّل قداس لشهداء القوات والمقاومة المسيحية، بمشاركة شعبية. وغداً، في الرابع من أيلول 2022، سيكون قداس آخر في معراب يحمل شعار «العهد لكم». القداس سيقام بنفس العنفوان والحماسة والإيمان السابقين وفيه يتجدد الوعد بثبات القوات بقضيتها، بشهدائها، وبخطها. ماذا عن خطاب الغدّ؟ لكلّ خطاب، لأي من الخطابات التي ألقاها الدكتور جعجع على مدى العقود السابقة، علاقة باللحظة السياسية التي تصادف سنويا. واليوم تأتي بعد انتخابات نيابية وقبل انتخابات رئاسية. والثابت في كل الأعوام هو التحية الى الشهداء، فالمناسبة لهم، مناسبتهم، وتترافق مع وضع ما يشبه خارطة للمرحلة المقبلة، وفيها أنها كما قاومت في الحرب دفاعاً عن الهوية والكيان تقاوم اليوم من خلال المؤسسات.

عناوين الغد

سيُستذكر غداً، في قداس الشهداء، شهيد القوات اللبنانية الأول الشيخ بشير الجميل، رئيس الجمهورية الوحيد الذي كان قادراً على إنهاء الأزمة، في حين ان كل من أتوا بعده كانوا يريدون إدارتها وأبقوا البلاد ساحة. وسيتضمن قداس الغد دعوة الى المعارضة كي تتوحد من أجل العمل على الإتيان برئيس لا يخضع الى حزب الله. سيقوم الدكتور جعجع غدا بتشخيص الأزمة في لبنان، التي تتجلى بوجود فريق سياسي يصرّ على تغيير وجه لبنان. وخطف لبنان. هو تشخيص واضح، لأمرٍ واقع، سيُقدّم غدا في معراب، وسيترافق مع تشخيص الواقع المسيحي، وسيدلّ مجددا على الفريق الذي يُشكل غطاء يتيح خطف الدولة ولبنان. وسيذهب الدكتور جعجع الى الرئاسة وتحديد مواصفات الرئيس وكيف يمكن إعادة إنشاء السلطة. سيكون الفريق السيادي حاضرا غدا في معراب. ستظهر صورة جميلة لإلتقاء القوى السيادية في القداس، الذي سيُشكّل مناسبة جامعة للمكونات السيادية التي ستتوحد انطلاقا من الخطر.

بعيداً عن كل شيء، كل كل شيء، يبقى الوعد: شهداؤنا لا يموتون.