لا يكتمل «منطق» الانسحاب الروسي من أجندة القتال المفتوح في سوريا، الا بتتمات لا بد منها، وباتجاهين اساسيين يتعلقان بإيران من جانب وتركيا من جانب آخر.
وبغضّ النظر عن التفاصيل اللوجستية التي يلاحقها «البنتاغون» وغرفة عمليات «الناتو» في شأن حركة الانسحاب الروسي وعديده وعدّته، فان العنوان الوحيد الفعلي (والبعيد عن الهوى) لما أعلنه فلاديمير بوتين، هو انتهاء مرحلة التدخل المتماهي (الجزئي) مع أجندة ايران الاسد، وبدء مرحلة جديدة تتماهى مع أجندة المصالح الروسية أولاً وأساساً.
ولذلك ترجمات شتى أساسها ان موسكو، الواقعية عندما تريد والبطرانة عندما تريد، لم تأتِ الى سوريا لتهديد مصالحها وتخريبها في الطول والعرض، وانما العكس. بل لم تكن لتأتي اصلاً لو كانت لديها شبهة بسيطة لاحتمال تدرج تدخلها الى شيء أبعد مدى من حدود النكبة السورية وباتجاهات صدامية اقليمية او دولية.
وروسيا في سوريا أظهرت وجهين. واحد انفعالي استفزازي بطاش وشيشاني اللون، وترجمته من جهة بالقصف الجوي الذي قارب حدود الوحشية التامة، ومن جهة ثانية بالتصريحات التي كان اشهرها ان «كل من يرفع سلاحاً في وجه الاسد يُعتبر ارهابياً»… الخ. ووجه آخر براغماتي يليق بـ»سمعة» بوتين الباحث دائماً عن مصالحه ومصالح بلاده، والتي جعلته يمدّ قوس «العلاقات الطيبة» من تل ابيب الى طهران، من دون ان يشعر بأي حرج!
التفاضل بين الوجهين ما كان مرّة مطروحاً في سياق المنطق الذي يعتمده بوتين.. أي انه لم يغلّب الانفعال على ما عداه، ولم يستبدل لعبة المصالح بفذلكات النص الايديولوجي والتعبوي.. ولم تعنِ له كثيراً او قليلاً، تلك اللغة التبسيطية (والتزويرية) التي اعتمدها المحور الايراني الاسدي. بل كان على العكس من ذلك، شديد الحرص على تسريب ما يكفي من معلومات ومعطيات في شأن علاقاته (الشخصية والسياسية) مع اسرائيل، وفي شأن التنسيق المفتوح على مدار الساعة بين غرفة عملياته العسكرية في قاعدة حميميم وغرف عمليات الجيش الاسرائيلي.
نزوله الصاخب في سوريا، من اساسه، لم يخلُ من تأويلات، بعضها يعتدّ به. وأهم ذلك، ان أجندته تضمنت بندين. الأول حماية بقايا السلطة من السقوط.. والثاني حماية تلك البقايا من نفوذ ايران المتنامي في «بيئة» الاسد خصوصاً، وفي سوريا عموماً! وهو في كل حال، اظهر ما يكفي من اشارات ومواقف ودلالات على ابتعاده عن الاجندة الايرانية، ان كان من خلال التزامه مع الاميركيين منطق «الحل السياسي» او من خلال توصله (مع الاميركيين ايضاً!) الى قرار الهدنة، او من خلال اعلانه بالأمس، ان «مهمته» نُفذت في معظم بنودها، وان الجزء الاكبر من قواته سيعود منتصراً، الى روسيا!
ارادت ايران التصرف مع الآلة العسكرية الروسية مثلما تتصرف مع ميليشياتها: تقاتل بواسطتها لتحقيق اهدافها الخاصة! وهي راهنت كثيراً (وسوّقت رهانها) على الذهاب على اكتاف بوتين، الى «الحسم العسكري»! لكن قرار الانسحاب خيّب آمالها ورهاناتها وستكون لذلك تداعيات كبيرة، في سوريا كما في غيرها!
اما من جهة الاتراك فيمكن الافتراض، بأن مساحة الاختلاف معهم، بالنسبة الى بوتين، آيلة الى الانحسار وليس العكس.. حادثة اسقاط «السوخوي«، ظلّت محصورة، حتى في ذروة العمليات الحربية الروسية. وطبيعي راهناً، ان تنحصر اكثر فأكثر في المرحلة الجديدة، خصوصاً وقد ظهر، ان البلدين ما اختلفا على شيء في الفترة التي تلت انتهاء الحرب الباردة، سوى على مقاربة النكبة السورية.. ولا شيء يدل في هذه الأيام، على ان تلك النكبة، او بالأحرى، «مصير» بشار الاسد، سيكون عنواناً لأي خلاف فعلي وجدي، بين موسكو وأنقرة، بل بين موسكو وأي جهة أخرى، غير طهران!