بين الجدران الأربعة، يكاد يكون هناك إجماعٌ من قبل السياسيين الذين أقرّوا بأنفسهم قانونَ سلسلة الرتب والرواتب، على أنها كانت غلطة، وأنّ تداعياتها على الوضع المالي للدولة خطيرة، وقد ظهرت بوضوح الآن. أمام هذا الواقع قررت الهيئات الاقتصادية نقلَ هذا الأمر الى العلن، وبدأت تطالب مباشرة بإلغاء السلسلة، طالما أنّ مَن أقرّها يعترف اليوم بأنها «كانت غلطة».
تعكس الأرقام والاحصاءات تداعيات سلسلة الرتب والرواتب على المالية العامة، بحيث إرتفع الدين العام الإجمالي بنسبة 5.2% وذلك من مستوى 79.6 مليار دولار في نهاية آب 2017 ليصل إلى نحو 83.7 مليار دولار في نهاية آب 2018، وهو يشكّل حالياً نحو 150% من الناتج المحلي الإجمالي. كما ازداد الدين العام الصافي بنسبة مماثلة إلى 72.9 مليار دولار خلال الفترة ذاتها.
وارتفع معدل التضخّم في لبنان إلى 7% خلال الأشهر التسعة الأولى من 2018 في مقابل معدل 4.3% للفترة ذاتها من العام الماضي وذلك بفعل اسباب عدة منها النشاط الاقتصادي والتوسّع النقدي ومفعول سلسلة الرتب والرواتب.
وفي السياق، سبق لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن أعلن بوضوح أنّ عجز المالية العامة ارتفع بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب وهذا العجز تموّلَه الدولة، لكنّ تمويله بات أكثرَ تكلفةً وخصوصاً أنّ الفوائد عالمياً ارتفعت، بمعنى أنّ الحاجات الموجودة لتمويل الدولة باتت أكبر بكثير. ودعا سلامة الى حركة إصلاحية تُسهم في تصغير حجم القطاع العام الذي بات عبئاً كبيراً على الاقتصاد. وقال: خلال السنوات الأربع الماضية أصبح العجز المتراكم للدولة يناهز 20 مليار دولار. أي انها أموال اضطُرّت الدولة الى أن تنفق اكثر من إيراداتها بهذا المبلغ. وفي المقابل، لم يزد الناتج المحلّي إلّا بقيمة 4 مليارات دولار فقط. بمعنى آخر أننا ضخّينا مبلغ 20 مليار دولار في الاقتصاد ولم يُعطِ نتيجة في الناتج المحلّي لكي يتعدّى 4 مليارات دولار.
اسكندر لـ«الجمهورية»
في هذا السياق، لفت الخبير الاقتصادي مروان اسكندر لـ«الجمهورية» الى أنه قبل إقرار السلسلة كانت أرقام المالية تشير الى أنّ كلفتها ستكون 1200 مليار ليرة، ليتبيّن لاحقاً أنّ كلفتها تخطّت الـ 2000 مليار ليرة أي بزيادة 900 مليار ليرة بما يوازي 600 مليون دولار، وبالتالي بدلاً من أن تخفّض الحكومة العجز 950 مليار ليرة ارتفع 900 مليار، في حين أنّ كل الدول التي تنوي إعطاء لبنان مساعدات مالية تطالب بخفض هذا العجز وتحسين الإدارة، إلّا أنّ أيّاً من الخطوتين لم تنفَّذ. هذا الامر يعني أنّ أموال «سيدر» لن تصل، وفي ظلّ الضائقة الاقتصادية التي نمرّ بها سيكون الوضع سيّئاً جداً في العام 2019 وهذا يعود في الدرجة الاولى الى عجز الكهرباء الذي يشكّل ما نسبته 43 في المئة من حجم الدين العام، علماً أنّ عجز الكهرباء بدأ بالارتفاع من العام 2008 الى 2018 وللاسف انّ الطرف السياسي يواصل احتفاظه بهذه الحقيبة، بما يشير الى أن لا تحسّن مرتقباً في هذا القطاع.
ورداً على سؤال، استغرب اسكندر امكانية التراجع عن السلسلة، خصوصاً وأنّ غالبية موظفي القطاع العام قبضوها، يبقى موظفو المدارس الموعودون بالدرجات الست. أما عن احتمال اللجوء الى فرض ضرائب جديدة لتمويل السلسلة، فقال: الضرائب تُفرض عادة على اقتصاد يتوسّع وينمو، فما نفع زيادة الضرائب على اقتصاد ضعيف ويصغر.
مرقص
يبقى السؤال هل إنّ خطوة التراجع عن السلسلة ممكنة قانونياً؟
يؤكّد الخبير القانوني المحامي بول مرقص لـ»الجمهورية» أنّ سلسلة الرتب والرواتب باتت حقاً مكتسباً لموظفي القطاع العام، خصوصاً بعد مرور أكثر من عام على دخولها حيّز التنفيذ. واعتبر أنّ طريقة إقرار السلسلة كانت خاطئة ورتّبت أعباء غير محسوبة جيداً وغير مضمونة بواردات اكيدة وكافية ومستمرة. انطلاقاً من ذلك أيّد مرقص مبدأ اعادة النظر بالسلسلة لكن بأقل اضرار لأصحاب الحقوق المكتسبة لأنّ هذه النظرية في القانون (أي الحقوق المكتسبة) تخولهم مقاضاة الدولة اللبنانية.
ودعا مرقص الى إعادة النظر في استفادة البعض من اصحاب الرواتب والمخصّصات غير المبرّرة وغير المعقولة وتأمين مصادر تمويل اكثر إبداعاً (مثل فرض ضرائب على السجائر وعلى التلوّث البيئي وعلى الكماليات كالعلكة وغيرها وخصوصاً على السلع والمستوردات الباهظة، وزيادة الرسوم والضرائب على شركات «الأوف شور» التي تدفع سنوياً مبلغ مليون ليرة فقط مهما كان ربحها وكذلك «الهولدينغ» التي تدفع بين مليون و800 الف ليرة و5 ملايين مهما كانت أرباحها، من دون اصابة ذوي الدخل المتوسط والمحدود لأنه لم يعد بإمكانهم أن يحتملوا ولا يمكن تحميلُهم المزيد من عبء السلسلة.
الأسمر
وفي ظلّ هذا الأخذ والرد على السلسلة، جدّد رئيس الإتّحاد العمالي العام بشارة الأسمر في بيان اأمس تأكيده أن «لا تراجع عن السلسلة تحت طائلة إضراب فوري في القطاع العام والمصالح المستقلّة والمؤسسات العامة والجامعة اللبنانية».
وقال: «نحن نطالب بضرائب تصاعدية لأننا، نحن العمال والموظفين في القطاع العام والأسلاك العسكرية الوحيدين الذين ندفع الضرائب ونطالب بالكشف على الضرائب التي تُدفع من قبل أصحاب العمل وأصحاب الشركات في وزارة المال لأنه يُحكى كثيراً عن دفترين: دفتر يعلن فيه عدم الربح ودفتر حقيقي لا يقدَّم للوزارة».
أضاف: «نطالب بتطبيق الضريبة المقطوعة التي طالبت الهيئات الاقتصادية بإلغائها. منذ العام 2012 حتى العام 2017 زاد الدين العام 20 مليار دولار ولم يكن هناك من سلسلة».
وسأل: «أيُعقل أنّ سلسلة لم تمرّ على تطبيقها سنة وهي تكلّف بحدود 1800 مليار ليرة هي المسؤولة عن الانهيار الاقتصادي في لبنان، بينما تكاليف تشغيل قطاع الكهرباء يكلف خسائر تُقدَّر بمليارَي دولار سنوياً؟».