لم يعُد «التأجيل» فقط السمة الملازمة لجلسات محاكمة إمام مسجد بلال بن رباح الشيخ أحمد الأسير، في ملف أحداث عبرا، بل بات ينطبق عليها المَثل العراقي «تيتي تيتي متل ما رحتِ جيتي»، أو كمن يُغنّي بطريقة الـ play back. فالمشهدية عينها تتكرّر من حيث الأسئلة، الأجوبة، الاعتراض، وغيرها من التفاصيل، باستثناء حَرقة قلب أهالي الشهداء العسكريين التي تزيد من إرجاء إلى آخر، بصرفِ النظر عن الجهة المعرقلة للعدالة.
إنّها الحادية عشرة والنصف إلّا خمس دقائق، تدخل هيئة المحكمة العسكرية الدائمة برئاسة العميد حسين عبدالله ومعاونة القاضي المدني محمد درباس وحضور مفوّض الحكومة لدى المحكمة القاضي هاني حلمي الحجّار.
قفصُ الاتّهام يعجّ بالموقوفين، مجموعة من المُخلى سبيلهم في آخر القاعة، فيما الأسير «مكتّف»، يجلس في المقعد الخامس عن يمين القوس، وأهالي الشهداء عن شماله في أول صف. غاب مشهد وجود 5 عسكريين يحرسون الأسير ليبقى جنديّ وحيد يجلس إلى جانبه.
في التفاصيل
«أحمد محمد بلال الأسير» نادى عبدالله، فردَّ الأسير: «حاضر»؛ بينما كان يهمّ لمغادرة مقعده باتجاه الهيئة، بعباءَته «أوف وايت»، وقلنسوة بيضاء، وحذاء بنّي. وقفَ الأسير بقامته الممشوقة وبنظّاراته الطبّية السوداء، وقد بَدت عليه ملامح العافية، إذ علّقَ أحد الحاضرين: «مِبيَضّ ما اختَلفنا ع الخِبي، بَس كِرشو كِبران، مناسبو الجوّ بروميه».
بأسلوب هادئ وكأنّه يُحصي الكلمات، ردَّ الأسير على أولى أسئلة عبدالله: «مين وكلاءَك؟ ليش ما إجو؟ ما معُن خبَر؟». فعدَّد أسماء وكلائه الثلاثة، مؤكّداً عِلمهم بموعد الجلسة، وأنّهم يُصرّون على مواصلة مقاطعة الجلسات إلى حين البتّ بالإخبار المقدّم: «مَن أطلق الرصاصة الأولى؟».
ثمّ ردّ عبدالله: «موقفُهم هذا كان في الجلسة المنصرمة، وسبقَ وأوضَحنا أنّ الإخبار يَذهب إلى النيابة العامة وله مسار قانوني ومراحل يَعبرها». بدوره، أوضَح الحجّار أنّ النظر في الإخبار يتمّ بالتزامن مع مسار الجلسات وليس عبر مقاطعتها: «الإخبار منذ أسبوع تحوّلَ، وهذا موضوع منفصل عن عرقلة العدالة والتمنّع عن الحضور».
وقبل أن يلفتَ عبدالله إلى أنّ المحكمة ستعلن عن إجراء ستتّخذه في نهاية الجلسة، قاطعَه الأسير بنبرةٍ هادئة، كمن «يُسمّع» درسَه، قائلاً: «تمنّينا فصلَ قضيتي عن بقيّة القضايا لكي لا تتمّ العرقلة»، فردَّ عبدالله: «أنت أساس القضية… والقضية بدا تِمشي».
نزيل فندق أم سجين؟
لم يكد عبدالله يُنهي عبارته وينادي على الموقوف عبد الباسط، حتى عاد وطلبَ الأسير الكلام وهو يشبك أصابعَ يديه: «لو سمحتَ حضرة القاضي، مسألة سريعة؛ عندما كنتُ في الريحانية كنت أنتظر في غرفة إفرادية إلى حين بدء الجلسة، ولكن بعدما انتقلت إلى روميه، أصبحتُ أترَك في سيارة تحت الشمس مكبَّلَ اليدين ومعصوبَ العينين إلى حين موعد المحاكمة، وأنا مريض سكّري».
فرد عبدالله «بتِتعالج»، وكذلك وَعَد الحجّار. أمّا نظرات أهالي الشهداء فبَدت جاحظةً تحمل ألفَ سؤال وسؤال: «ليش يلبّوا طلبات الأسير؟ من الأساس ليش ينْنَقَل ع روميه؟ مِن أيمتى بيِختار السجين شو بدّو؟».
لفَصل الملف
بعدها، قدّم أحد وكلاء الدفاع في الملف عينِه المحامي محمد المراد، مذكّرةً إلى هيئة المحكمة، يطالب فيها بفصلِ ملف الأسير عن بقيّة المتّهمين لضمان حسنِ سير العدالة، مستنداً إلى المادة 501 من قانون أصول المحاكمات المدنية التي تجيز الفصلَ بين الملفّات، ومذكّراً بأنّ العميد خليل ابراهيم سبقَ أن فصَل بين ملف اﻷسير وموقوفين آخرين.
وقال المراد: «نرفض أن نبقى أسيري السيّد اﻷسير الذي له الحق بالدفاع عن نفسه بالطريقة التي تناسبه، ونحن نَعلم أنّ المحكمة حريصة على حقّ أيّ متّهَم، لكنّها أيضاً حريصة على حسنِ سير العدالة وضمان حقّ المتّهمين…
أكثر من 8 مرّات ولا جلسات ولا إخلاء سبيل». وأضاف: «عرقلة العدالة عن قصد أو غير قصد تُسيء إلى المحكمة، لذا نطالب بفصل جميع المتّهمين عن الأسير». طلبٌ سرعان ما لاقى إجماع ورضى معظم زملائه من وكلاء الدفاع والمتضرّرين من المماطلة.
وفي هذا السياق، أكّد الحجّار أنّ «عرقلة الجلسات هي قيد النقاش الدائم بالتشاور مع المحكمة، لا نتهرّب من مسؤوليتنا، العرقلة لا تَخدم المحكمة ولا النيابة العامة». أمّا عبدالله فقال: «من الجلسة الماضية نفكّر في صيغة قانونية ولن نمضيَ بهذه الوتيرة، سبقَ أن حضَر وكلاء الدفاع عن الأسير وطالبوا بالفصل وأنتم تطالبون بذلك، عليّ دراسة الحسَنات والسلبيات».
وقبل إرجاء الجلسة إلى 10 كانون الثاني 2017، سطّرَ عبدالله كتاباً إلى نقابة المحامين في بيروت يُعلمها بتمنّع وكلاء الأسير عن حضور الجلسات وعرقلة العدالة، متمنّياً الوصول إلى «مخرج قانوني قبل الجلسة المقبلة، أو عودة الوكلاء عن مقاطعتهم الجلسات، هذا الملفّ يَعنينا أكثر من أيّ ملف آخر، ولن نألوَ جهداً».
«بدّي ضَل محبوس»
وقبل أن تُرفع الجلسة بثوانٍ، وفيما النقاش قائم حول الحلول الممكنة، علت صرخة أحد الموقوفين، محمد صلاح، من خلف القضبان، معترضاً على طلب المحامي المراد، علماً أنّه وكيله، بطلبِ فصلِ ملفّ الأسير عن المتّهمين، «ما بدّي إتحاكم وغيري لأ، بدّي ضلّ مع الأسير، أنا مِن يلّي ما بدّن إخلاء سبيل». صرخةٌ أثارت استغرابَ الحاضرين، فيما أعلن المراد فوراً اعتزاله الدفاع عن المتّهَم، طالباً توكيلَ محامٍ آخر.
في موازاة ذلك، أرجَأ قاضي التحقيق في بيروت فريد عجيب جلسة التحقيق مع الأسير في جرمِ محاولة قتل إلى 24 من الشهر الجاري لتزامنِها مع جلسته في المحكمة العسكرية الدائمة وعدمِ سَوقه إلى دائرته.
بَيع سمك في البحر!
في الختام، تتزايد نقمة المحامين تجاه زملائهم وكلاء دفاع الأسير، بمقاطعتهم الجلسات وليس عرقلة مصير بقيّة الموقوفين فقط، إنّما الإساءة إلى المحكمة وعملِها رغم تمسّكِها بإحقاق العدالة.
وفي النظر إلى السيناريوهات المتاحة، لا يبدو الحديث عن تبديل وكلاء الدفاع مجدِياً، خصوصاً أنّه لا يمكن عزلُهم، ولا يمكن تعيين البديل إلّا برِضى الموقوف، أي الأسير، لذا نحن أمام دائرة مفرَغة.
أمّا على مستوى فصلِ ملفّ الأسير عن ملف الموقوفين، كما يطالب وكلاء الأسير ومعظم المحامين على حدّ سواء، تبدو المسألة مفتوحةً على احتمالات قد لا تُحمد عقباها في تاريخ القضاء اللبناني، ولا حتى يمكن حصرُها، لا سيّما وأنّها قد تثير شهيّة عدد كبير من الموقوفين وطلباتِهم.
والنتيجة؟ مِن المبكِر حسمُها بانتظار أن تنهي المحكمة «دراسة حسَنات وسلبيات الفصل»، أمّا رهان البعض على ظروف سياسية في المنطقة، أمنية، وغيرها… وتمسّكُهم بالمماطلة حتى وإنْ فُصِل الملف لاحقاً، كمن يبيع سمك في البحر!