Site icon IMLebanon

بين الاحتلال والتسوية

 

قد يكون في مصطلح الاحتلال مبالغة بعض الشيء. لكن، بغض النظر عن تعريف الهيمنة المبتذلة لإيران على الجمهورية اللبنانية، النتيجة تبقى مروّعة.

 

قد يتذاكى البعض بوصف فرع «الحرس الثوري الإيراني» في لبنان بالـ»شرعي» والمنتخب «ديمقراطياً»، مثلما يحاول ماكرون ومشجّعو مؤتمر جنيف أو متسلّقو لبنان والمهجر. لكن هذا لا يغيّر حقيقة أنه لا هذا ولا ذاك. التسوية كانت وما زالت هاجس الغرب. ودافعها الفعلي هو البزنس طبعاً، ولكن لا نخدعنّ أنفسنا، فلا علاقة للتسوية لا بـ»السلام» ولا برديفه «الاستقرار».

 

في سبيل هذه التسوية، وبغض النظر عن العواقب المرعبة، كما ثبت مراراً وتكراراً، يراد من اللبنانيين هضم أعظم سرقة وتفجير وقتل وعدوان في التاريخ الحديث باعتباره شأناً محلياً صغيراً نتيجة سوء إدارة وفساد، لا نتيجة عدوان عنصري متعصّب من جيران الحي. فعلى ما يبدو، ليست كل حيوات المستضعفين مهمة. بمعنى: «أنتم من تسببتم بذلك لأنفسكم، فتعايشوا مع النتائج الآن. وفي الأثناء، إليكم صحن شوربة وعلبة ضمادات». واقع جزئي مؤلم يتم تصويره على أنّه الكل، وذلك لأنه مريح. مريح لأنه يحوّل الجريمة جنحة والضحية تاجراً والغازي مجرّد زبون. ومع ذلك، هل تسبب اللبنانيون بذلك لأنفسهم؟ من أكثر من زاوية، نعم، ولكن.

 

الاستقالة من السياسة والقبلية والأنانية، لا تأتي من فراغ بل هي رأسمال المضطهدين الذين يشعرون بالعزلة وبأنهم متروكون لمصيرهم، وهو أمر شهدناه يحدث لأفضل الشعوب. وبعبارة أدقّ، يشعرون بأن بيتهم الصغير الجميل ليس سوى كرة تتلاعب بها أقدام متنمرين متضخّمين لا يرحمون.

 

وماذا عن الفساد اللامتناهي والغياب الصارخ للأخلاق على المستويين التشريعي والتنفيذي؟ لا بد أن تسأل. هنا قد يكون الجواب مفاجئاً، ولكن بديهي.

 

هذه الطبقة السياسية المقرفة هي نتاج منهجي لعمليات التسوية المستمرة منذ زمن. فعندما تصرّ على التسوية مع متضخّم متنمّر على حساب أمة مقهورة، ستجد نفسك في النهاية تمنح تفويضاً مجانياً للفاسدين والدمى. ومن المؤكد أن الأفراد «الطبيعيين» سينتهي بهم الأمر محيّدين، أو يتجنّبون الخدمة العامة اصلاً. دولتنا الآن دولة فاشلة، والسبب الأساس أن من أخذها رهينة، منذ السبعينات، كان وما زال مجرد دول فاشلة في حدّ ذاتها. انظر إلى ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتمعّن بالقاطنين على جانبي الخط الفاصل. في الشرق فشل، في الغرب نجاح. وقسّ على ذلك حتى اليوم. الآن، سواء أكان المعني رئيساً أو وزيراً، أو دبلوماسياً، أو كاردينالاً، أو شيخاً، أو ناشطاً أو مدّعياً، أن يفهم أو لا يفهم هي مسألة مباراة بين الضمير والمصلحة، مع عدم حضور الأول في معظم الوقت. لماذا؟ لأن الأعمال تفرض ذلك. فالـ»سلام»، في مثل هذه العقول، يعني نوعاً من الـ»استقرار» الموقت لاستخدامه أو تطويعه في جدول أعمال أو انتخابات مقبلة، بغض النظر عن الكلفة وعلى حساب من وموعد الاستحقاق. وأما ما سيحدث بعد ذلك فقصة أخرى، قصة يعرفها اللبنانيون جيداً. فعلى مدى أكثر من خمسين عاماً، كانت الطبقة السياسية الساقطة التي دمّرت البلد وباعته رخيصاً نتاج تسوية متواصلة، محلية ودولية على حد سواء، ومع المحور إيّاه.

 

في سياق جيوسياسي مشابه يحصل الآن، ربما تكون النهاية لأوكرانيا أسعد حظاً من لبنان. ليس فقط بسبب حجم أرضها وثرواتها الملموسة وأهميتها، وليس فقط لخلوّها من طبقة سياسية زبائنية استثنائية، بل لأنه، في حالة لبنان خاصة، تظل الأصول غير الملموسة – كالأثر الثقافي – مفهوماً معقداً جداً على الفكر البدائي. بين شرق وغرب؛ عقوبات ومفاوضات؛ احتلال وتسوية، يبقى من يعيشون على الحافة، بين الإثنين، وحدهم حياتهم غير مهمة.

 

ولكن، أحياناً، مهما كانت الاحتمالات، الأمر المشرّف والمنطقي والشرعي الوحيد أن تقول «لا». لأن عواقب «نعم» أو «ربما» أخطر مما هو كائن ومما سيكون. «الحياة والحرية والسعي إلى السعادة» مجموعة من الحقوق غير القابلة للمساومة، متوفّرة غالباً على جانب واحد من هذا الانقسام، وبالتحديد حيث هي قلوبنا وعائلاتنا وغالبيتنا.

 

«الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقي الاثنان أبداً» – إلا على البوابات الحدودية لسلسلة جبال لبنان الشرقية، إن كان ولا بدّ.