في وقت تسعى روسيا الى امتصاص الضغوط الأميركية المتزايدة عليها، في الملف السوري خصوصاً، جاء قرار دمشق وطهران بتصعيد العمليات العسكرية في حلب وجوارها ليتناقض مع أولويات موسكو، وكان لا بد من تذكير نظام بشار الأسد والميليشيات الإيرانية بضرورة التزام قائمة أولويات موسكو التي عبرت عنها بوضوح في اجتماع طهران الثلاثي، ويتصدرها اتفاقها مع واشنطن على «مرحلة انتقالية» تناقش في جنيف وتشكيل «حكومة مختلطة» بين النظام والمعارضة.
وكانت واشنطن سربت خبراً عن حادثة وقعت قبل أيام وكادت تؤدي إلى مواجهة بين طائرات أميركية وروسية في الأجواء السورية، وأعقب ذلك تسريبها معلومات عن رسالة وقعها أكثر من خمسين ديبلوماسياً أميركياً وأبدى وزير الخارجية جون كيري شبه تأييد لها، تدعو إلى توجيه ضربات جوية وصاروخية لنظام بشار الأسد بسبب استمرار خرقه وقف إطلاق النار واستبعاده أي تسوية تخرج عن شروطه.
وتزامن ذلك مع قرار حلف شمال الأطلسي نشر أربع وحدات عسكرية في أوروبا لمواجهة عدوانية موسكو تجاه حلفائها السابقين في حلف وارسو، وقرار الاتحاد الأوروبي أول من أمس تمديد العقوبات المفروضة على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، على رغم أصوات طالبت بتخفيفها تدريجاً.
وكانت أوساط النظام السوري والميليشيات الإيرانية التي تقاتل إلى جانبه بررت هزائم أخيرة منيت بها قواتها في منطقة حلب وغوطة دمشق بانعدام الغطاء الجوي الروسي، وأيضاً السوري، بعدما وضعت القوات الجوية النظامية بإمرة الروس العملانية كشرط مسبق لتدخل موسكو.
وتكرر الأمر في محافظة الرقة الخاضعة لتنظيم «داعش»، والتي دخلتها القوات النظامية ثم انسحبت منها تحت ضغط هجوم مضاد لم يواجه بمساندة جوية.
وسبق لكيري أن أشار بعد بدء معركة حلب إلى «نفاد صبر» بلاده من الانتقائية التي تمارسها دمشق وموسكو في تطبيق وقف إطلاق النار.
ويبدو أن الروس استاؤوا من عدم التزام الجيش السوري والميليشيات الإيرانية الهدنة التي أعلنتها موسكو في حلب لمدة 48 ساعة بعد الاحتجاج الأميركي وتعرض قوات تدعمها واشنطن لقصف جوي، فأرسلوا وزير دفاعهم إلى قاعدة حميميم واستدعوا الأسد إلى لقائه لتذكيره بأنه لا مجال للمناورة عندما يتعلق الأمر بالتزامات موسكو الدولية التي تتخطى بكثير الحسابات المحلية، لا سيما بعد حملة إعلامية متذمرة قادها الإيرانيون عن «تخلّ» روسي متعمد.
فروسيا التي تتصرف باعتبارها «ندّاً» للولايات المتحدة في الملفات الدولية، وبينها سورية، لا تستطيع القبول بعجزها عن فرض هدنة ليومين على نظام تعتبر أن مصيره بيدها.
وسبق للروس أن وجهوا رسائل «إخضاع» مماثلة إلى الأسد، سواء عبر تصريحات تستنكر مواقف متصلبة أبداها، وتتناقض مع اتفاقهم مع الأميركيين على الحلحلة، أو عبر قرارات اتخذوها بخصوص انتشار قواتهم في سورية من دون العودة إلى دمشق. وهم في كل حال ينطلقون من رؤية أشمل لمصالحهم في المنطقة وموقعها في مجمل استراتيجيتهم الدولية.
ومن الواضح أن حاكم دمشق يعاني من اضطراره إلى التوفيق بين متطلبات حليفيه الروسي والإيراني التي قد تصل أحياناً حد التناقض، نتيجة الحسابات الخاصة لكل منهما، لأنه قد يسرع سقوط نظامه إذا تخلى عن دعم أحدهما. فعندما تصعّد طهران يستجيب لها بتصريحات نارية، وعندما تضغط موسكو يذعن ويتراجع ويلتزم. لكن الكلمة الأخيرة تبقى للروس، مثلما هو واضح، لأن «الحرس الثوري» و «حزب الله» وسائر الميليشيات الإيرانية، لم يثبتوا قدرتهم على إحداث فارق نوعي في سير القتال، ولم يستطع الجيش النظامي أن يتحدث عن تحسن في أوضاع قواته المتناثرة إلا بعد تدخل موسكو.