وزارتا الأشغال والطاقة… مسؤولتان أولاً
تكرار مآسي اللبنانيين، وآخر أشكالها الغرق في وحول الطوفانات، ليس حظاً عاثراً، إنما نتيجة حتمية لغياب المحاسبة. فصانعو القرار الصامدون في نفس المراكز منذ ما بعد الحرب اللبنانية، «يتفننون» بـ»تشتيت المسؤوليات» للهروب من الملاحقة. وعندما يضيق الخناق، يتحصّنون وراء مللهم، وتصبح مساءلة موظف، ولو برتبة وزير، إعتداء على الطائفة.
هذا ما حدث في الأمس القريب مع سرقة الودائع، وتفجير مرفأ بيروت، وملاحقة المقاولين، والخلل في عمل المجالس، وفيضان المجاري… وغيرها الكثير من المآسي التي حدثت سابقاً وستتكرر مستقبلاً.
غرق المواطنين والسيارات والأرزاق بدفق السيول الموحلة قبل يومين، لم يقتصر على كفرحباب وأدونيس وغزير وجبيل، إنما طال مناطق أخرى. ومهما اختلفت حدة المعاناة، يبقى هناك سببان رئيسيان:
الاول، هو الإعتداء على مجاري الأنهار والسواقي ومجاري التصريف. إعتداء يأتي مرة على شكل تحويل للممرات المائية، ومرة أخرى على شكل إنسداد بسبب عدم التنظيف، ومرات كثيرة بسبب العمران السكني والسياحي على مجاري المياه ومصباتها.
الثاني، هو الفساد في صفقات تنفيذ البنى التحتية، الذي أفقد البلد فرصة الإستفادة من مليارات الدولارات المتأتية على شكل قروض أو مساعدات ومنح.
أما بقية الأسباب فمتعلقة بالصيانة، والتحديث والتطوير.
مسؤولية الأشغال
التنصل من المسؤولية كما فعل الوزيرعلي حمية لا يحل اي مشكلة … الأجدى كان تحليه بالشجاعة الادبية، كما تؤكد مصادر معنية. إذ لم يلحظ المعنيون في مدينة جونيه قيام وزارة الأشغال بواجباتها على الأوتوستراد الساحلي والطرقات الرئيسية التي تربط بين قرى كسروان. وقد اقتصر تدخلها على القيام ببعض أعمال الصيانة على الأقنية ومجاري الصرف بعد أول عاصفة. فيما المهم هو «إزالة التعديات ولا سيما منها العقارات الواقعة على الجهة البحرية التي تفصل بين الطريق الساحلي والبحر»، يقول رئيس بلدية جونية جوان حبيش. فالسماح بالاستثمار على هذه العقارات حد من إمكانية تصريف المياه بشكل إنسيابي الى البحر، نظراً لتشكيلها عوائق إسمنتية. الأمر الذي أدى إلى تجمّع المياه المنسابة من المناطق الأعلى على الطرقات بدلاً من انسيابها تلقائياً إلى البحر». أكثر من ذلك فهناك طريق مشقوق من حريصا بطول 7 كلم يجر مياه الامطار من أربع قرى لا يوجد فيها مصافٍ لتصريف المياه.
الكارثة التي حلت بجونيه دفعت بالبلدية إلى تهديم العوائق بمحاذاة البحر التي تمنع إنسياب المياه، على الرغم من وجود ترخيص من وزارة الاشغال، ومن فصيلة الشواطئ التابعة لوزارة الداخلية. وبرأي حبيش فان «هذه المخالفات التي تعود إلى سنوات ما قبل الحرب، لم تكن تشكل مشكلة في الماضي. إنما اليوم ونتيجة التغيرات المناخية التي طالت لبنان، وتسببها بغزارة وسرعة في المتساقطات خلال فترة زمنية قصيرة جداً، أصبحت تشكل عائقاً رئيسياً لتسريب المياه. خصوصاً في ظل وجود بنى تحتية قديمة لم تأخذ في الاعتبار التغيرات المناخية واشتداد وسرعة المتساقطات.
الطاقة مسؤولة أيضاً
من جهة اخرى تبرز مسؤولية وزارة الطاقة على مجاري الانهار ومياه تصريف الامطار. فالانشاءات المقامة على مجرى مياه وادي حنتوش في جونيه متروكة من دون أي تدخل أو معالجة من قبل تلك الوزارة . كما توجد في منطقة المعاملتين تعديات فاضحة على بعض مجاري مياه الامطار. حيث أعُطيت مؤسسات سياحية ومطعمية رخصاً للاستثمار على الاملاك البحرية والنهرية. و»هي كلها أسباب تؤدي إلى تفاقم مشاكل الفيضانات في فصل الشتاء»، بحسب حبيش.
البلديات والمهام المنوطة بها
أما عن مسؤولية البلديات فيرى حبيش «أنها مقسومة ما بين تنظيف الطرقات والمجاري، وبين تطوير البنى التحتية. في ما يتعلق بالشق الاول فان بلدية جونيه قد أتمت واجباتها منذ شهر أيلول الفائت. أما الشق الثاني المتعلق بتنفيذ مشاريع جديدة وتطوير البنى التحتية، فقد أصبح اليوم ضرباً من المستحيل بسبب الانهيار الاقتصادي وفقدان الليرة قيمتها، وتراجع مداخيل البلديات بشكل هائل. حتى أن البلديات كانت تواجه صعوبة في تنفيذ المشاريع قبل نشوب الازمة، بسبب عدم تحويل عوائد الصندوق البلدي المستقل بشكل منتظم ودوري وكامل. وقد كانت تقتطع منه مبالع لصالح شركات جمع النفايات، ومجلس الانماء والاعمار، وبعض الإدارات. الامر الذي منع تنفيذ المشاريع، وكان سبباً من أسباب ما يصيبنا اليوم».
«ما حدث يوم الأول من أمس بين جونيه وغزير على الجهة الشمالية فاق المتوقع نتيجة غزارة المتساقطات وحدتها»، بحسب جوان حبيش. «فيما استطاعت العبارات والمجاري استيعاب الكميات المعقولة التي تساقطت على الجهة الجنوبية باتجاه صربا وقسم من غزير. فكمية المياه التي تساقطت لم تصرف بشكل طبيعي باتجاه البحر». وبرأي حبيش فان «البنى التحتية المعمولة لا تستوعب كمية المياه التي تساقطت. وهو ما يجعل الحق على الطبيعة. أما مستقبلاً، وفي حال لم تتخذ التدابير اللازمة، وتحديداً لجهة توسيع قنوات التصريف لتتلاءم مع التبدلات المناخية، فيمكن تحميل المسؤولية عنها إلى وزارة الاشغال.
الغرق بالفساد
غرق المواطنون شكلياً في وحول مياه الأمطار يوم الأول من أمس، أمّا فعلياً فهم «غرقوا بالفساد»، يقول المدير التنفيذي في «الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية – لا فساد»، جوليان كورسان. و»قد تجسد هذا الفساد في لبنان بأجسام مختلف القطاعات، وأصبح واضحاً للعيان، وملموساً. فعلى الرغم من الاستثمارات الهائلة في البنى التحتية، ما زالت النتائج سلبية. مثلها مثل الإستثمار في الكهرباء الذي كلف عشرات مليارات الدولارات، ولم نزل من دون كهرباء. ومثلهما قطاعات الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية… وغيرها الكثير من القطاعات التي صرفت عليها مبالغ كبيرة، والنتيجة ما زالت سيئة جداً». وبحسب كورسان فان «ما يحدث هو نتيجة لسوء استخدام السلطة وتوظيفها للمصلحة الخاصة». وقد تخطى الوضع برأيه سوء الإدارة للموارد، و»البرهان: تدني مستوى لبنان على مؤشر مدركات الفساد إلى المرتبة 154 ونيله علامة 25 على 100».
على الرغم من سن القوانين المطلوبة لمكافحة الفساد، فان لبنان في انحدار مستمر منذ نحو 10 سنوات، لان العبرة تبقى في التنفيذ ووجود قضاء مستقل وفاعل»، بحسب كورسان. «الأمر الذي يؤدي إلى غياب المحاسبة، التي تعتبر جزءاً أساسياً من المحافظة على المجتمع وتنميته سواء كانت محاسبة عقابية أو إيجابية تشجيعية على فعل الصواب».
مسؤولية المواطنين في ما خص الفيضانات لا تنحصر بالتوقف عن الرمي العشوائي للنفايات كما يحاول أن يسوق البعض، إنما تتعداها إلى وجود نية حقيقية وعمل حقيقي على تغيير النظام. إذ حان الوقت لنعرف أن تقاذف المسؤوليات هو جزء من الثقافة الموجودة والمترسخة من ضمن النظام التحاصصي. وإن لم يتم تغيير النظام وأدواته، سيبقى اللبناني عالقاً في دوامة المشاكل، يمثل دور الضحية، إلى ما لا نهاية.