تضم داخلها كلّ تاريخ الجنوب من “البابوج للطربوش”
يفتح الجنوب بوّابته السّياحيّة، وتندرج في إطارها القلاع والمتاحف والحصون وبيوت الضيعة القديمة، لا يغيب الجنوب عن السّياحة الدّاخلية، وإن لم يأخذ حقّه منها، ما زالت أغلبية قلاعه ومناطقه الأثرية «على الهامش»، رغم أهميتها التاريخية والثقافية، من قلعة دوبية وشقرا الى تبنين والشقيف والعلمانية ودير كيفا وصولاً الى قلعة شعبان، المرابضة على تلة تشرف على الجنوب وصولاً حتى فلسطين المحتلة، ومؤلفة من تسعة أبراج وخمس طبقات استطاع صاحبها يوسف شعبان أن يؤسس لحقبة سياحية مهمة من تاريخ الجنوب السياحي.
من وادي الحجير حيث ترافقك المطاعم ذات الطابع التراثي، التي تأخذك الى زمن الأجداد، تعبر باتجاه بلدة شقرا، حيث تطالعك قلعة شعبان التي بناها بنفسه، وبعرق جبينه، لم تمدّ له الدولة ولا حتى وزارة السياحة أي دعم، تركته وحيداً، يؤسس لحقبة مهمة من السياحة الداخلية، أراد من خلالها شعبان «المعمرجي» أن يضع الجنوب على الخارطة السياحية…
لسنوات طويلة عمل شعبان في قلعته التي تشبه قلعة «فالتا» الفرنسية أو قلعة «ديغول»، وإلى حد ما قلعة موسى في الشوف، مع فارق بسيط أن لهذه القلعة ميزتها الخاصة وهندستها وزخرفتها المميزة التي استغرق العمل فيها 21 عاماً جسّد فيها عائلته.
فهي قلعة بأبراجها التسعة والتي تضمّ داخلها كل تاريخ الجنوب من «البابوج للطربوش». حِرَف اختفت واندثرت وبعضها بدأ بالعودة جرّاء الأزمات التي تعصف بالبلد، وفي ركن منها تقف عند زمن السراج واللوكس والفتيلة والذي يلوح في الأفق… تتنقل بين طبقاتها الخمس التي تضم في كل منها حرفة مختلفة وفناً غير مألوف، أراد من خلالها شعبان ان يمكِّن الزائر من الاطلاع على ما فاته من زمن جميل، بدأ يحن إليه في زمن الأزمات، اللافت في القلعة ليس فقط تصميمها الجميل وهندستها الفريدة، إنما ما تحويه من حرفيات دأب شعبان لسنوات طويلة على صناعتها وضخ الروح فيها عبر تقنية «الكهرباء» اذ تخالها واقعية، ولبرهة تشعر وكأن الفاخوري قد أنجز فخارته والحداد الطابونة والكندرجي أنهى صناعة الحذاء، فكل ما في القلعة يتحدث بلغة بات المواطن بحاجة اليها للابتعاد قليلاً عن أزماته التي أرهقته. يعوِّل شعبان كثيراً على دخول قلعته في خارطة الدولة السياحية، فالجنوب ثريّ بالمواقع الاثرية المهمة وإن كان بمعظمها مبادرات فردية من متحف الضيعة في شقرا الى قلعة شعبان وغيرها من متاحف تفتح الجنوب من أقصاه الى أقصاه على السياحة…
فإلى قلعة شعبان در
هنا وحده التاريخ يتكلم، والتراث يرسم خريطة السياحة الجديدة، تلج القلعة فيستقبلك شعبان بابتسامته.
للقلعة مدخلان عملاقان يمثل الأول أمه وأبيه والثاني هو وأخته، يأخذانك الى داخل القلعة المؤلفة من تسعة أبراج عدد إخوته وخمس طبقات. تشدك تلك الأصوات المنبعثة من خلف آلات الحدادة والنجارين والمبيِّض، تخال نفسك في سوق الحرفيين لولا كلمة يوسف شعبان هذا «متحف الحرفيين» هنا تتعرف على شخصيات حضرت الى المتحف على حد قول شعبان لتكون شاهدة على زمن العز والتعب، اخذ شعبان على عاتقه حماية هذا التراث، فهو وضعه داخل قلعته ليصبح قيمة مضافة إليها.
لأصوات المهباج والحرفيين تأسرك، وكما يقول شعبان «جعلت قلعتي متحركة كي يشعر الزائر انه على تماس مع الحرفيين، لاننا في زمن العصرنة والتطور ويجب ان نحاكي هذا التطور».
على ورقة كيس الترابة وضع شعبان اول تصميم للقلعة التي ما كانت لتبصر النور لولا عناد شعبان وإصراره على إنجاز حلمه الذي يجسد عائلته.
على طول الأجنحة المنتشرة في القلعة، يتسنّى للزائر أن يقرأ التاريخ الذي ضاع في غياهب السياسة، وأن يطّلع على قيمة التراث الذي أغفلته الحكومة لسنين طويلة، ويقف عند الحرفيات التي حفظها شعبان في قلعته وأضاعتها الدولة بإهمالها، فالقلعة نموذج حي عن واقع لبنان القديم بصناعاته واقتصاده وعاداته وتقاليده، مع فارق بسيط أن شعبان أسقط السياسة من علياء مملكته وأعطى الكادحين كل الأجنحة، لأنهم برأيه «التراث الذي لا يموت، فكل حرفة ومجسم يحكي قصة مكافح من المبيّض الذي كان يجول في القرى لتبييض الطناجر، الى الكندرجي الذي كان يصنع الأحذية.
فالمتحف يضم 35 حرفة إندثرت من خبز الصاج والتنور، إلى تحميص البن والجاروشة، الحداد العربي، النجار الكندرجي، المصور القديم المُجلخ «الذي يجلخ الحديد والسكاكين» والفاخوري «صانع الفخار»، بائع الكاز، المصوراتي وكل المهن القديمة لأنه كما يقول شعبان «هذه الحرف هي التي صنعت لبنان بعرق جبين الأجداد وبفضلها تربّت الأجيال».
لسنين طويلة عمل شعبان على بناء كل أقسام قلعته والتي كان آخرها المتحف الوطني الشعبي الذي يضم شخصيات أدبية كجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وعلمية كالعالم حسن كامل الصباح، وفنية كشوشو ووديع الصافي، وسياسية كالرئيس رفيق الحريري، وغيرها من الشخصيات التي نحتها بدقة عالية والتي حازت إعجاب أمير دولة عربية عرض عليه شراءها أو بناء قلعة شبيهة في الامارات ولكن رفضه لعشقه لوطنه «ولكي يكون لنا في لبنان سياحة تراثية ناشطة» على حد قوله.
عام 1993 انطلق حلم شعبان الذي استطاع خلاله ان يعطي قيمة مضافة الى الفن التراثي والأثري الذي بدأ يتمدد في جنوب لبنان. على حد قوله القلعة هي شاهد حيّ على إبداع الجنوبي الذي يمتهن كل تقنيات الفن والزخرفة والهندسة، لا يخفي الصعوبة التي واجهته، ولا حتى توقفه مرّات عن استكمال المشروع بسبب ضعف الإمكانيات المادية، و»مع ذلك نجحت لأنني أريد أن أقدم للجنوب قلعة تليق به في ظل إهمال كل القلاع التاريخية التي تغزوها الأعشاب».