كأن القسط والكتب والقرطاسية والزي المدرسي لا تكفي الأهالي كي يضاف إليها هم آخر، هو حجز مقعد لأبنائهم في المعهد الخصوصي بعد الظهر. أسباب كثيرة تدفع هؤلاء للاستنجاد بمعاهد «تقوية» تجارية تفرض نفسها بديلاً غير نظامي للمدارس والثانويات الرسمية والخاصة!
في السنوات العشر الأخيرة، انتشرت «معاهد التعليم الخصوصية المسائية» أو المُسمَّاة «معاهد تعليمية» كالفطر في كل مدينة وقرية. عدد هذه المعاهد، أو «الشقق» إن جاز التعبير، بات يوازي عدد المدارس إن لم يكن يضاهيها. إعلاناتها تملأ وسائل التواصل الاجتماعي والشوارع ومداخل المدارس والمباني. أما الوسائل الدعائية التي تلجأ اليها فمتنوعة: نسبة النجاح 100% في الإمتحانات الرسمية، تزويد الطلاب بترجيحات لاسئلة الامتحانات، التعاون مع نخبة من الأساتذة من ذوي الخبرة في هذا المجال، تقديم عرض خاص للمجموعات، الخ.
تعمل هذه المعاهد من دون إذن ترخيص إلاّ ما ندر، تحت مسمى «معهد لغات ودروس تقوية»، ولا تخضع لأي سلطة رقابية، إذ لا ترفع موازنات سنوية ولوائح بأسماء التلامذة لوزارة التربية، ولا تعطي إفادات مصدّقة.
لا إحصاءات رسمية بشأن العدد الإجمالي لهذه المعاهد. لكن المؤكد أنّ هذه الظاهرة غير القانونية وغير النظامية آخذة في الانفلاش بسبب غياب أنظمة ترعى إنشاءها وتراقب عملها، فتؤسِّس بذلك لتعليم موازٍ ذي أهداف تجارية بحتة يُعزِّز الجانب الاستهلاكي لدى التلميذ.
الأسباب التي يسوقها التلامذة لتبرير الاستنجاد بمعاهد التدريس الخصوصية متعددة، منها كثافة المواد الدراسية والفروض المنزلية والإختبارات اليومية التي تفوق قدرة التلميذ، الخوف من الرسوب، عدم توفر وقت كاف للاستفسار في الصف، صعوبة محتوى الكتاب المدرسي ومفاهيمه المعقدة، عدم وجود برامج تعليم تعويضي وتصحيحي في المدرسة لمعالجة المشكلات التحصيلية لدى التلامذة المقصرين، الإطلاع على أكبر قدر من نماذج الأسئلة التي قد تتوافر في المعاهد، التحضير لتجاوز امتحانات دخول الجامعات، والرغبة في رفع مستوى التحصيل والتفوق، الخ.
وثمة أسباب أخرى لها علاقة بمعلمي الصف في المدرسة النظامية، مثل الحديث عن محاباة بعض التلامذة وإهمال آخرين، اعتماد أسلوب التلقين والحفظ، عدم التحضير جيداً للدرس، الخ.
وفي بعض الأحيان، يتنصل الأهالي من متابعة أولادهم في المنزل، إما لعدم قدرتهم على ذلك، أو لعدم توافر وقت كاف لديهم.
الأسباب المعطاة واقعية، ومن حق التلامذة اللجوء إلى الوسائل التي تمكنهم من تحسين تحصيلهم العلمي، إلاّ أنّ هذه المعاهد غير فعّالة في مساعدة الطلاب «الضعاف» دراسياً بصورة خاصة، بسبب عدم اعتمادها التعليم الفارقي (محاكاة الفروق الفردية في القدرات بين تلميذ وآخر) من جهة، وعدم وجود المقومات اللازمة لذلك من جهة ثانية، والدليل أنّ تلامذة كثراً قد يتنقلون بين معهدين أو أكثر خلال سنة دراسية واحدة لتحسين تحصيلهم من دون جدوى.
الصورة التي تنقل عن سير عمل المعاهد تنزع عنها صفة «التربوية». هي، بمعظمها، تجارية وتتعامل مع التلميذ كزبون وليس كمتعلم، إذ كيف يمكن تبرير تدريس 6 تلامذة من ثلاث سنوات دراسية مختلفة وبلغتين مختلفتين فرنسية وإنكليزية، في حصة واحدة في مادة الرياضيات أو الفيزياء مثلاً؟ وما هي الجدوى التي يجنيها التلميذ خلال هذه الحصة؟ وما هو الوقت الخاص المتاح له؟
كيف يمكن لأستاذ واحد أن يدرّس ثلاث مواد علمية في المرحلة الثانوية؟
عملياً، الوقت الفعلي المخصص لكل تلميذ لا يتجاوز في أحسن الحالات سبع دقائق. كلفة هذه الدقائق السبع هي 10 آلاف ليرة وقد تصل إلى 15 ألفاً تبعاً للمركز و«سمعته» التي بناها على أمجاد «فخامة» الامتحانات الرسمية. وكيف يمكن أيضاً تبرير بيع كتيبات في مواد معينة كبديل عن الكتاب المدرسي بحجة محاكاتها للامتحانات الرسمية في حين أنها تحتوي على الكثير من الأخطاء اللغوية والعلمية، ولا تراعي بتاتاً الأصول والمعايير العلمية للكتب المدرسية، وكيف تبرر هذه المعاهد أن يدرّس الأستاذ نفسه ثلاث مواد علمية لطلاب في المرحلة الثانوية. فهل يحقق هؤلاء الفائدة المرجوة؟ وكيف يسند تعليم التلامذة لطلاب جامعيين لا يزالون في طور التخصص، وبعضهم من يدرّس مواد في غير تخصصه؟
ما ينبغي أن نقرّ به هو أن تنامي ظاهرة المعاهد وانتشارها له انعكاسات سلبية على التلميذ، والمعلم، والأسرة، وسلطة المدرسة ودورها كمؤسسة اجتماعية بالدرجة الأولى وتعليمية بالدرجة الثانية. هذه المعاهد لا تعزز ظاهرة التسليع التربوي وتشكل تعليماً موازياً للتعليم المدرسي أو ما يسمى «مدرسة الظل» فحسب، بل تسهم في تعزيز التمييز الطبقي بين التلامذة، وتحويل العملية التعليمية إلى مجرد تلقين وحفظ معلومات، والتحضير للامتحانات، ما يؤدي إلى زيادة الاتكال على الأساتذة وإضعاف التعلم الذاتي لدى التلامذة، وقتل الإبداع فيهم وحرمانهم من بناء ملمح الشخصية المتكاملة معرفياً وسلوكياً واخلاقياً، فضلاً عن إطاحة المبادرة الفردية للتلميذ الذي لا يكلف نفسه عناء قراءة السؤال وفهمه خلال الحصة الدراسية، بل ينتظر أن يحصل على إجابة سريعة من المدرّس الذي يتعامل معه كزبون لا مجال لإهدار الكثير من الوقت معه، لأن المتابعة «تحسب على الدقيقة» بسبب ارتباطه بتلامذة آخرين. كما أنّ عمل معظم هذه المعاهد يقتصر على إنجاز «الأجندة المدرسية» اليومية للتلميذ، من دون أي سعي جدي لرفع مستوى تحصيله العلمي.
من جانب آخر، ترهق هذه المعاهد ميزانية العائلة التي تجد نفسها مضطرة لإلحاق أولادها فيها، واللافت في بعض الأحيان أن يفوق قسط المعهد القسط المدرسي.
تبيع هذه المعاهد كتيبات «تحاكي» الامتحانات الرسمية تتضمن أخطاء لغوية وعلمية
في المقابل، شكلت الظاهرة مصدراً مالياً لكثيرين تخرجوا من الجامعات ولم تسمح لهم الظروف أن يعملوا في مجال تخصصاتهم، أو ما زالوا في طور التخصص الجامعي. بل إنّ بعض المعلمين تركوا وظيفتهم والتحقوا بالمعهد الذي وجدوا فيه مصدر رزق وفيراً يجنون من خلاله 4 أو5 أضعاف ما يتقاضونه في المدرسة. ومنهم من وجد فرصة مهمة للعمل بعد الإحالة على التقاعد، وآخرون تمكنوا لاحقاً من تأسيس مدرسة بعد خطوة المعهد ونجاحها.
لكن أخطر ما في هذا الأمر أن بعض معلمي المدارس أنفسهم يشجعون التلامذة على الالتحاق بالمعاهد من أجل تحقيق عوائد مالية إضافية لجيوبهم، فيشعر التلميذ أنّ مستوى تحصيله قد تحسن في حين أنّ المدرّس يكون قد درّبه على أنماط ونماذج قريبة من تلك التي سيمتحن بها.
معالجة هذه الظاهرة مسؤولية مشتركة بين الدولة والمدرسة والأسرة. فالدولة مسؤولة عن قوننة هذه المعاهد ومراقبة أعمالها بعد الإجازة لها بشروط ومعايير محددة ، فضلاً عن ضرورة إعادة النظر بالمناهج الدراسية، أما المدرسة فتقع على عاتقها العناية بالتلامذة لناحية مراعاة الفروقات الفردية بينهم، ووضع برامج معالجة تعليمية للطلاب المقصرين، وتهيئة بيئة تعليمية حاضنة لهم، وعدم إرهاقهم بالفروض المنزلية التي تفوق قدراتهم. فيما على الأهل أن يحفزوا أبناءهم على التعلم الذاتي، وأن يكرسوا الإهتمام اللازم لهم بشكل يومي ومستمر مع المدرسة وفي المنزل، لتجنيبهم الوقوع ضحايا لتجار العلم و«دكاكينه».