تتبع تاريخ الجيش في إيران يدل على أنه منذ العصور القديمة وحتى يومنا هذا٬ أي منذ ملوك الفرس الإخمينيين والساسانيين وحتى عصر حكم ولاية الفقيه٬ كان الجيش خاضعا دوما لشخص الحاكم٬ سواء كان الشاه أو الولي الفقيه٬ ولم يتحول الجيش من دوره كأداة بيد الحاكم إلى «جيش وطني».
ويعود تاريخ تكوين الجيش الإيراني المعاصر إلى العهد الصفوي (1501 1736(٬ حيث كانت البلاد قبل ذلك مفككة٬ وكانت الشعوب في الجغرافيا الإيرانية تحكم نفسها بنفسها على شكل أقاليم مستقلة أو إمارات محلية٬ ولم تقبل بهيمنة أجنبية عليها.
لكن الجيوش الصفوية التي بلغ قوامها أكثر من 60 ألف جندي وكان يتم تحديثها بانتظام٬ سيطرت على أغلب شعوب المنطقة وأخضعتها لحكم هذه السلالة لمدة 236 عاما.
إّلا أنه رغم كل هذا العدد والعدة٬ لم يتحول الجيش الصفوي إلى «جيش وطني» بالمعنى السياسي٬ وإنما بقي متمحورا على شخصية «الشاهنشاه» أي «ملك الملوك» وبقي هذا الولاء كركن أساسي في منظومة السلطة المبنية على المذهب الشيعي الصفوي. لذلك عندما ضعف الشاه٬ ضعفت الجيوش وراءه وسقطت الدولة الصفوية أمام مجموعة قليلة من القبائل الأفغانية بقيادة «محمود الأفغاني».
بعد ذلك٬ جاءت السلالة الأفشارية التي أسسها نادرشاه وهي من جذور تركية وعلى المذهب السني٬ وتبعت نفس النمط الصفوي في توسيع الجيوش الجرارة حيث بلغ قوامها أكثر من 375 ألف محارب٬ وهذا يعتبر من أعظم الجيوش في تاريخ إيران. وعلى أثره فتح الأفشاريون قندهار وداس دلهي عاصمة الهند٬ وارتكبوا مجازر ضد هذه الشعوب راح ضحيتها أكثر من 30 ألف شخص.
ويذكر المؤرخون الإيرانيون أن نادرشاه كان أقوى ملك على رأس أعظم جيش٬ ولكن كسابقه لم يتحول هذا الجيش العظيم إلى جيش وطني يدافع عن الوطن والشعب٬ وإنما بقي مقيدا بأوامر الشاه والولاء لشخصه٬ وحينما قُتل نادرشاه في خيمته في خراسان عام ٬1747 تبعثرت الجيوش وتقسمت إيران لأجزاء متعددة تحت حكم أمراء الحرب٬ وسادت الفوضى واستمرت لسنوات.
عند مجيء السلالة الزندية بعد الأفشارية٬ تكرر نفس الموضوع في بناء الجيوش في تاريخ إيران الحربي. وقد قام كريم خان الزندي أعظم ملوك الزندية ببناء جيشه بالاعتماد على القبائل المنتمية إلى القومية اللورية٬ ولم يخرج إطلاقا من نطاق القبيلة والانتماء إليها.
أما في عهد السلالة القاجارية التي حكمت إيران من 1789 إلى ٬1921 أي قرابة 132 عاما٬ فاستعادت الولايات والأقاليم استقلالها الذاتي وبقيت بعيدة عن السلطة المطلقة للنظام الحاكم٬ حيث كانت أولويات الشاه القاجاري في الدرجة الأولى جمع الضرائب٬ ومن ثم إظهار الولاء له دون أن يتدخل الشاه بشكل مباشر في شؤون الأقاليم. وكان الجيش في هذا العهد يعتمد على القومية التركية الآذرية ويلتزم فقط بوفائه للشاهنشاه وأوامره.
من جانب آخر٬ كان قانون المستعمرات البريطانية يحّد من تدخلات الشاه في شؤون الولايات الداخلية٬ وكان يدعم الحكم الذاتي في الأقاليم ويحافظ عليها. واستمرت هذه الأوضاع على هذا النحو حتى اندلاع الثورة البلشفية في روسيا القيصرية التي أثارت مخاوف كثيرة لدى البريطانيين والدول المتحالفة معهم٬ خاصة حول توجه عيون روسيا الشيوعية نحو مياه الخليج العربي٬ مما يهدد مصالح شركة الهند الشرقية وبشكل عام العرش الذهبي البريطاني في الهند التي كانت تخضع لانتدابها. من أجل ذلك٬ قررت بريطانيا وحلفاؤها توحيد السلطة والجيش في إيران ليكون سدا بوجه التمدد الروسي٬ كما أنهت نظام الحكم اللامركزي للولايات الإيرانية التي كانت تحكم بنظام شبه فيدرالي أو أقاليم شبه مستقلة.
وفي هذا السياق٬ تم اختيار «رضا خان ميربنج» قائد فرقة الخيالة في الجيش القاجاري٬ حيث تمت ترقيته كقائد عسكري ثم وزير حرب ثم رئيس وزراء حتى تعيينه كشاه على إيران الجديدة بانقلاب عسكري. وأصبح «رضاشاه بهلوي» ملكا جديدا على إيران٬ ولكنه استمر بنفس البذور الفكرية التي كان يحملها أسلافه في إيران حول بناء جيش وفي ومطيع له.
وفي عام 1925 احتل رضاشاه الأهواز بقوة السلاح وبضوء أخضر من بريطانيا العظمى آنذاك٬ وصادر ثرواتها النفطية التي كانت أهم مصدر تمويل لبناء جيشه الجديد. وقد قام بهذه الأموال٬ بتحديث جيشه وتسليحه بدبابات وطائرات حربية لم يملكها أي جيش في إيراني في السابق.
كان الشاه رضا بهلوي يزعم بأنه وصل إلى ذروة من القوة بحيث لا يمكن لأحد أن يزيل سلالته إلى الأبد. وكان يتخيل أنه أصبح بإمكانه أن يقف حتى في وجه الذين جاءوا به إلى الحكم. وبعدما بطش في داخل البلاد بجيشه وجنرالاته الأوفياء٬ راح يناطح مصالح الدول العظمى٬ وبدأ يتقرب إلى حلف «هتلر» الزعيم النازي٬ ناكرا جميل بريطانيا العظمي التي أوصلته إلى السلطة. وفي هذه الأثناء وفي قمة جبروته وغطرسته٬ سقط فجأة بين عشية وُضحاها وبأوامر من الحكومة البريطانية٬ وسقط عرشه وتم نفيه إلى أفريقيا الجنوبية في عام ٬1943 وغابت على الفور كل تلك الجنرالات والجيوش الجرارة.
أما ابنه محمدرضا بهلوي الذي تم اختياره شاها على إيران من بعد والده على يد «الحلف الثلاثي» المنتصر في حرب العالمية الثانية٬ فسلك نفس الطريق في بناء جيش قوي بلا منازع في المنطقة. ومن أجل ذلك٬ صرف مليارات الدولارات من أجل إعادة تطوير الجيش الذي أسسه أبوه. وساعده الارتفاع المفاجئ لأسعار النفط بعد عام 1973 على ما يهدف إليه٬ حيث فتحت شهيته لشراء أنواع السلاح في كل المقاييس٬ إلى درجة أن عشية سقوطه في عام ٬1979 كان لا يملك أعظم جيش في تاريخ إيران فحسب٬ وإنما أضخم جيش في المنطقة٬ وعلى هذا الأساس كان يعتبر نفسه «شرطي المنطقة».
ولكن سرعان ما تهاوت كل هذه الجيوش وذابت بلمحة بصر واحدة في ثورة فبراير (شباط) ٬1979 ولم تكن تلك الجيوش حتى قادرة للدفاع عن نفسها٬ ناهيك عن وقوفها في وجه الثورة الشعبية التي ابتلعت الشاه وعرشه في صورة أظهرت تكرار تاريخ علاقة الجيش والشاه في تاريخ إيران. الصورة التي عكست حال جيوشُبنيت على العنصرية
والتمييز والقمع ضد القوميات غير الفارسية والأقليات الدينية٬ ومهتمة فقط بولائها لشخص الحاكم بدل الانتماء إلى الوطن والشعب.
بيد أن الولي الفقيه الحاكم حاليا لا بد أن تعلم من دروس الماضي ويصر على اتباع سيرة أسلافه في بناء جيوش مجردة من الولاء للوطن والشعب٬ بل أكثر إيغالا في البطش ضد الشعوب في إيران٬ حيث لم يقتصر قمعه على الداخل وتجاوز إلى الخارج في إطار توسيع آيديولوجيته الطائفية في المنطقة وبث الفتن والحروب في دول الجوار. ويبدو أن مصيره لا يختلف كثيرا عن الجبابرة الذين سبقوه في حكم إيران.
وبحكم التاريخ وطبيعة الحكام الجدد في إيران٬ لا يمكن اعتبار علي خامنئي أقوى من الشاه عباس الصفوي ولا من نادرشاه الأفشاري ولا حتى رضاشاه البهلوي وابنه.
وجميع هؤلاء الطغاة بجيوشهم الجرارة سقطوا في لحظة لم تكن في الحسبان.
لكن خامنئي وحرسه أكثر وحشية ممن سبقوهم في قمع الشعوب الإيرانية وكذلك في مجازرهم ضد الشعوب العربية والإسلامية٬ وهذا ما سيعجل بسقوطهم شر سقطة٬ لا محالة٬ حيث علمتنا دروس التاريخ أن الُملك لا يبنى على جيش مهمته فقط الدفاع عن التاج أو العمامة٬ بعيدا عن الانتماء للوطن والشعب.