IMLebanon

طريق الشام: من الديليغانس إلى التهريب

 

في منتصف القرن التاسع عشر، قررت السلطنة العثمانية شق طريق دمشق ــــ بيروت التي كانت مساراً وعراً، تنقل عبرها البضائع على الدواب وتحتاج الى أيام عدة لعبورها. بعد فترة زمنية، صارت الطريق مجهزة لسلوك عربات الخيل أو ما اشتهر على تسميتها بـالـ«ديليغانس» نسبة إلى الشركة الفرنسية التي كانت تشغّلها. مع نهاية القرن التاسع عشر، لزمت شركة فرنسية من قبل السلطنة العثمانية بتوسعة الطريق التي ربطت بخط سكة قطار الحجاز. غيّرت طريق دمشق ـــــ بيروت حياة المقيمين على جانبيها، بدءاً من القرن العشرين. تحول المزارع وصاحب الأرض البسيط إلى متمول بعد ارتفاع أسعار العقارات النائية وافتتاح الأسواق. لم يعد البقاعي مضطراً لانتظار مردود الموسم لمرة واحدة في السنة، إنما صار مردوده مستمراً بسبب الإيجارات والإستثمارات.

تمددت عربات البيع والمقاهي واستراحات المسافرين نحو حقول العنب وبيادر القمح وأشجار الحور والزنزلخت. على طول الخط، شكل مربع جديتا ــــــ شتورة أبرز محطة للعابرين. كانت مزرعة ومرتعاً للغبار في الصيف، وللذئاب والثعالب وابن آوى في الشتاء وموسم الثلوج. المحطة السهلية التي تلي الطريق الوعرة بين جبل لبنان وضهر البيدر، جذبت أبناء جديتا وعائلات من المتن والجبل والشام وبيروت للاستقرار فيها وافتتاح استثمارات متنوعة الأحجام تلبي احتياجات العابرين على اختلاف إمكاناتهم. فكانت أكشاك بيع سندويشات اللبنة والجبنة وأولها جرجورة، وأخرى لبيع الحلويات والأطعمة والمشروبات والسحلب والقريشة ومحال بيع أدوات الصيد بعد رواج هواية صيد الطيور في سهل البقاع، فضلاً عن بسطات وخيم انتشرت على جانبي الطريق تبيع البطيخ والبصل والبطاطا… ازدهار الخط جذب الفرنسي بيار بران إلى الإقامة في شتورة وافتتاح مخمر لإنتاج النبيذ وحانة، قبل أن يبني الفندق المعروف حالياً بـ«مسابكي». وبران هو المهندس الذي كلفه الجيش الفرنسي بتصميم طريق دمشق ـــــ بيروت على شاكلتها الحالية.

بين منتصف القرن الماضي وحتى عام 2000، عاشت طريق الشام في جزئها البقاعي أيام مجدها. تكاثرت المحال والمؤسسات التجارية والصناعية على أنواعها حتى فاق عددها الأربعة آلاف. ازدهار البقاع اقتصادياً عززه اعتماد السوريين على السوق اللبنانية. كان التجار السوريون يشترون المواد الغذائية ومواد البناء وغيرها بعشرات الأطنان. النشاط التجاري أدى إلى انتعاش قطاعات اقتصادية؛ أبرزها محال الصرافة والمصارف.

يقول أمين المال في غرفة التجارة والصناعة والزراعة في زحلة والبقاع محمد بكري إن ساحة شتورة، محطة المسافرين والقادمين، أصبحت مقراً رئيسياً لمحال الصرافة في لبنان. التاجر اللبناني عند نهاية كل يوم عمل كان يقصد الصرافين لتبديل الليرة السورية التي دفع بها الزبائن السوريون ثمن مشترياتهم، إلى الليرة اللبنانية أو الدولار. ولم يكن الصرف يقتصر على تلك العملات الثلاث، بل إن تنوع العابرين العرب والأجانب أمّن توافر مختلف العملات العربية والأجنبية، بما في ذلك الين الياباني الذي كان يطلبه سياح يقصدون قلعة بعلبك. كانت العملة السورية تشحن إلى دول الخليج حيث يشتريها المغتربون السوريون ويرسلونها إلى عائلاتهم في سوريا. أما بالنسبة إلى المصارف، فقد تلقفت حاجة السوريين لإخراج ودائعهم من سوريا وافتتحت فروعاً في شتورة وزحلة. في المقابل، كانت البضائع التي يشتريها اللبناني من السوق السورية محدودة وتقتصر على أنواع من الألبسة والأقمشة والأطعمة.

لم تدم مواسم العز البقاعية طويلاً. يربط بكري الأمر بعاملين رئيسين، أولهما تحرر السوق السورية وانفتاحها على الاستيراد وتوافر احتياجات السوريين في أسواقهم، وثانيهما فتح السوق اللبنانية بعد انتهاء الحرب الأهلية، بحيث لم تعد وجهة السوريين والعرب محصورة بالبقاع.

بقي الوضع الاقتصادي مقبولاً في البقاع، بحسب بكري، إلى أن شهد أول خضّة في عام 2005، إثر انسحاب الجيش السوري الذي كان جنوده من أبرز زبائن محال المنطقة. الخضة الأقوى كانت مع بداية الأزمة السورية عام 2011، إلى أن دخلت في موت سريري مع إقفال معبر نصيب الحدودي عام 2015. بخلاف السائد، لم ينعش النازحون حركة الأسواق في البقاع. يقول بكري إن معظم السوريين المقيمين في المنطقة «هم من طبقة الفقراء والمعدمين، فيما أصحاب الرساميل والميسورون جاؤوا إلى لبنان، ومنه غادر معظمهم إلى بلدان أخرى لأن الحكومة لم توفر لهم تسهيلات استثمارية أو لأن الظروف السياسية والأمنية لم تشجعهم على البقاء. توقف المعابر شجع التهريب بين سوريا ولبنان، ما أدى إلى إغراق السوق المحلية بالبضاعة السورية، ولا سيما الزراعية، في وقت توقفت فيه حركة التصدير إلى الأردن ودول الخليج مع إقفال معبر نصيب». حينها اضطر التاجر والمزارع إلى خفض سعر منتجاته ليتمكن من تصريفها.

يسخر بكري من انقلاب الأحوال. يستذكر كيف كان الموز المستورد من دول أميركا اللاتينية ينقل إلى لبنان ويدخل إلى سوريا عن طريق التهريب، في وقت كان فيه الموز اللبناني محمياً من الدولة.

 

من ملف : العلاقات اللبنانية ــ السورية: التطبيع لتسريع عودة النازحين