لم يكن لبنان يحتاج ملفَ العسكريين المخطوفين ليظهر عجزه عارياً. العجز سمة من سمات الدولة ومؤسساتها منذ عقد تقريباً. وكلّما قتل الارهابيون شهيداً جديداً قفز هذا العجز الى الواجهة ليخبرنا أننا أمام أزمة دولة ونظام وصيغة، وأنّ ما يكبِّلنا ليس ضعفاً شيطانياً أو مساً عجيباً، إنما هو الضعف والوهن والانقسام وقلة الحيلة، وهذه كلها عوامل ذاتية متصلة مباشرة بالصيغة اللبنانية.
كيف نفاوض وننقذ جنودنا، وفينا مَن يعتبر الخاطفين ثوّاراً، ولا زال يعلن عن دعمهم ويحتضن عائلاتهم ويرسل اليهم المساعدات «الانسانية»؟
كيف نفاوض وبيننا مَن يريد لهذه القضية أن تكون «كعب اخيل» الذي يسقطنا في إثم الصدام والاصطفاف الأعمى والمجنون؟
كيف نفاوض وبيننا مَن اجتهد ويجتهد لتفسير، وربما تبرير، الاعمال الارهابية التي نفّذها إرهابّيو سجن «رومية»، الذين يطالب الخاطفون بإطلاقهم، ورَبَط بين أعمالهم الإجرامية وبين «تورّط «حزب الله» في سوريا» في حين أنّ في رقابهم دماءَ العشرات من الضحايا والشهداء؟
كيف نفاوض وبيننا مَن ضغط ويضغط على الجيش كلّما شدّد الاجراءات على الحدود، وجعل من بعض القرى الحدودية مناطق عازلة يتحرّك فيها «الثوار» بكلّ راحة، وينالون حصصهم من «المساعدات الانسانية»، ويخططون بكلّ «هدوء» لإستهداف الجيش؟
كيف نفاوض وبيننا مَن يرفض الحديث مع سوريا؟ ويناصبها العداء؟ وينحاز في المعركة الدائرة هناك الى جانب مَن يخطف جنودنا ويستهدف جيشنا وأجهزتنا؟
هذا ليس كلّ شيء، الفضيحة تكاد تكون مدوية، ولولا المناخات الحوارية التي تسود البلاد، لكان سلوك البعض في هذا الملف كافياً لتفجير الحكومة ووضع البلد أمام خيارات صعبة قاتلة.
إنسداد الافق في قضية العسكريين وحال العجز التي نعانيها، كلّما اعدم شهيد جديد غالبية اسبابها داخلية. عندما يرى الخاطفون بيننا مَن يتساهل حيال إرهابهم ويبرّره، سيرفعون سقف مطالبهم بكل تأكيد.
وحين يسمعون وزراءً ونواباً يعلنون عبر الاعلام أنّ اعتقال زوجات الارهابيين «خطأ»، من الطبيعي أن يصعّدوا اللهجة و يلجأوا الى ما هو اكثر من التهديد. وحين تصلهم وعود ورسائل «ودية»، من البديهي أن يستثمروا فيها لتصل الى ملفات سياسية لا علاقة لها بالملف موضوع التفاوض.
كيف نفاوض وننجح ونحن منقسمون في توصيف الموقف؟ ومنقسمون في النظر الى الخاطفين؟ وفي طرق التعامل معهم، وآليات وشروط التفاوض معهم؟
من حيث المبدأ ينبغي أن تكون هذه القضية سبباً لنتوحّد حولها وجسراً لنتقارب، لكنها جاءت لتعمّق الهوة، وتعكس فهماً متباعداً حيال معالجتها والثمن المنطقي المفترَض دفعه لإستعادة الجنود المختطفين، ومعهم ما تبقى من هيبة للدولة وكرامة للبنانيين. جاءت لتؤكد مجدداً أننا في «بيت بمنازل كثيرة»، وبمداخل ومخارج ومعابر وقنوات كثيرة أيضاً.
ألا نخجل من أنفسنا حين يصنّف الجنود مذهبياً ومناطقياً ويعدمون على هذا الاساس؟ ألا نخجل من انفسنا حين تكون معايير التفاوض على الجنود قريبة ايضاً من هذا المنطق؟ ألا نخجل من أنفسنا حين نظهر بهذا العجز وهذا الضعف والوهن؟
كيف نفاوض وننجح إذا كانت كلّ معاييرنا مزدوجة ومتناقضة؟ وكيف لا يستغلّ الخاطفون هذه الفجوات الفاقعة؟ فلنتوحد على الاقل في معايير التفاوض وآلياته، ولنخرج من التصنيفات التي يريدها ويفرضها علينا الارهابيون الخاطفون.
أزمة العسكريين المخطوفين ليست منفصلة عن كل الازمات التي يعيشها البلد. والعجز الذي نعانيه حيالها ليس منفصلاً عن أحوالنا وصورتنا وواقعنا. لم نكن ننتظر هذه القضية لنكتشف حجم التهافت الذي نعيشه. نحن «الرجل المريض» الذي يكابر ويظنّ أنّ في وسعه التعايش مع المرض.