دولة الطائف التي ولدت من رحم الحرب الأهلية والصراع الإقليمي على الجغرافيا اللبنانية لم تُعطَ فرصة الحياة ولو مرة واحدة. أمعن البطش الإقليمي المتربّص بلبنان، منذ توقيع وثيقة الوفاق الوطني، في تفكيك وتركيب المكوّنات الإجتماعية والسياسية والطائفية للمجتمع اللبناني، مبدّداً كلّ الفرص لقيامة الجمهورية الثانية، كما نجح في وضع كلّ مقوّمات الداخل في خدمة الإقتحام الإقليمي لمكوّنات وسيادة الدولة. وبالرغم من كلّ ما قدّمته وثيقة الطائف في سبيل بناء دولة ديمقراطية لاطائفية، لم يرتقِ النقاش السياسي إلى مستوى المسؤولية لإرساء ثقافة سياسية تسعى إلى بناء «ثقافة مواطنية» يعبّر عنها دستور، ودولة وطنية تقوم على السيادة وعقد إجتماعي يغدو الفرد فيه مواطناً في دولة.
لم ينجح اللبنانيون في التقاط الفرصة الحقيقية التي أتاحها انسحاب الجيش السوري من لبنان، بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وبالرغم من إلتقاء جمهور كبير منهم حول عدد من العناوين الوطنية، في إطلاق دينامية لحياة سياسية جديدة. بالمقابل نجح الإشتباك الإقليمي في الجنوب اللبناني، ولاحقاً في الميدان السوري بتأجيج الصراع الداخلي في لبنان، وبإعادة إدخال لبنان إلى ميدان التسويات. وبالرغم من كلّ المحاولات الرسمية للنأي بالدولة عن التدخل العسكري لحزب الله في أكثر من مجال إقليمي، لم ينجح اللبنانيون في انتخاب رئيس للجمهورية خارج إطار معادلة القوة التي أرساها التمدد الإيراني.
قدّم المشاركون في التسوية الرئاسية كلّ التسهيلات للعهد الجديد لإنجاح تشكيل الحكومة والإسراع بالتعيينات. وبالرغم من عدم التوقف أمام التجاوزات الدستورية التي رافقت ذلك، يبدو فريق العهد وكأنّه يسابق الوقت لإثارة أكبر قدر ممكن من الإستنفار الداخلي والإقليمي والدولي في آنٍ واحد. وإلا فكيف يمكن قراءة هذا الكمّ من الإستنفار المذهبي الذي يصرّ فريق الحكم على إثارته من خلال صيّغ انتخابية، أقل ما يُقال فيها أنّها أكثر مذهبية من قانون الدوحة، ولا تمتّ بصلة إلى دستور الطائف؟ وكيف يمكن قراءة التهديد بالفراغ وتعطيل الحياة السياسية التي يكفلها الدستور؟ وكيف يمكن تفسير هذا الإمعان في إطلاق المواقف حول مواضيع خلافية لا تلتزم التضامن العربي وتسيء إلى علاقات لبنان بالدول الخليجية، وتثير المجتمع الدولي حول التزامات لبنان تطبييق القرارات الدولية؟
لقد سقطت المظلة الدولية تباعاً عن جمهورية 1943 بسبب عجزها عن التأقلم مع موازين القوى الدولية وفي مقدّمتها إنهيار النفوذ الأوروبي في الشرق الأوسط لصالح نظام العولمة. وسقطت عنها المظلّة الإقليمية لعدم قدرتها على التعامل مع ارتدادات الصراع العربي الإسرائيلي. وسقط الإجماع الوطني حولها، لعدم قدرتها على تطوير النظام السياسي، واستيعاب المتغيّرات الثقافية والإقتصادية والديموغرافية الناتجة عن تطوّر المجتمع المديني ودور الجامعة اللبنانية وصعود اليسار السياسي والحركات النقابية، بالرغم من كلّ المؤشرات على قابلية الداخل للإنفجار.
ما الجدوى الآن من تطويق جمهورية الطائف بكلّ الملفات المتفجّرة في الداخل وعلى المستوى العربي والدولي؟ ما جدوى الإستمرار في الإستنفار الطائفي بمعزل عن حقائق الديموغرافيا والجغرافيا، ولماذا الإمعان في استعادة مجتمع ما قبل الدولة الحديثة، مجتمع العائلات والعشائر والطوائف والمذاهب، حيث يتفاخر الجميع بهوياتهم الفائضة؟ أليس لإستجرار استنفار مذهبي مقابل؟ وما جدوى إثارة الداخل والخارج الدولي والإقليمي من خلال تناول مسألة سلاح حزب الله الخلافية بشكل يسيء إلى الدور الوطني للجيش والى التزامات لبنان الدولية ويؤدي إلى مزيد من التدهور في علاقاته الإقليمية قبل أيام من مشاركة لبنان في القمّة العربية
لماذا يتمّ التعامل مع دولة الطائف، على مستوى الدستور والإستقرار السياسي الداخلي والعلاقات الإقليمية والدولية، وكأنّها «مسألة شرقية» جديدة.
أليست هذه ثقافة الحرب الأهلية بامتياز في ظلّ مناخات الفدرالية والتقسيم وحق الأقليات في تقرير مصيرها؟
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات