مناورات شارون نفذت ببرودة مجزرة صبرا وشاتيلا
وقائع الاغتيالات في تاريخ لبنان السياسي
واتهامات اشارت الى ضلوع دول في المنطقة فيها
لعبت الاغتيالات السياسية دوراً أساسياً، في تاريخ لبنان الرسمي، وتركت آثارا على مجمل الأحداث، قديمها وجديدها، لكن أحداً لم يستطع أن يترك آثاراً لها، أو دليلاً على منحاها في معظم الأحداث.
ويقول العارفون بالأسرار، ان اغتيال الزعيم الوطني كمال جنبلاط، كان البداية، لكن النهاية ارتبطت بالعديد من الاغتيالات، ولا سيما في حقبة الألف الثالث، التي ذهب ضحيتها بعض نواب ١٤ آذار.
وفي كتابه الشهير محطات في ذاكرة الوطن يروي العميد عصام ابو زكي فصولاً مترعة بالأسى، عما واجهه في تلك الحقبة، بعد تصفيته ل دولة المطلوبين في العاصمة الثانية للبنان، اذ مثّل كل من الرئيس سليمان فرنجيه، وكان يومئذٍ رئيساً للجمهورية، والرئيس الشهيد رشيد كرامي، علامات فارقة في رسم المنحى السياسي للشمال. وهذا ما جرى تفعيله في مطلع الألف الثالث للقضاء على دويلات المذاهب التي نشأت بين البترون وطرابلس، وبين منطقة جامعة البلمند، وأقاصي الضنية، وفي الجبال الواقعة بين قضاء زغرتا وبلدات تقع في جبال الاربعين والمدن المنثورة في مناطق كانت مسرحاً لظهور العنف الطائفي ولا سميا في قضاء طرابلس.
الا ان العنف الطائفي الذي ارتبطت به حوادث وقعت في شارع المئتين ما لبثت أن زالت، وحلّت مكانها ارجحية متحررة من العقل الطائفي والرياح المذهبية، وقد هبت دفعة واحدة، في منطقة عرفت حضارة ثقافية طوال فترة طويلة، تميزت بالحضارة والثقافة.
ويروي العميد عصام ابو زكي قائد الشرطة القضائية انه يوم ١٦ آذار من العام ١٩٧٧، كان متوجهاً من عمله في بيروت الى مدينة بعقلين في الشوق، وعند وصوله الى احد منعطفات الطريق الملتوية، والممتدة من قرية دير دوريت، شاهد سيارة بونتياك لونها اسود وأحمر جانحة فوق حافة الطريق، ومشرعة الابواب، وكان منظرها غير عادي، وعليها امائر مؤامرة غامضة.
ويواصل العميد ابو زكي روايته:
تابعت سيري صعوداً، لأفاجأ عند اول منعطف بعقلين من جهة ديردوريت، بجثتين على الارض احداهما بلباس عسكري، والثانية بلباس مدني، لم أعرفهما لأول وهلة، لكني ربطت بينهما وبين سيارة البونتياك، لكن ما ان اكملت طريقي حتى فوجئت بسيارة الشهيد كمال جنبلاط، وكنت اعرفها وهي مرسيدس تحمل الرقم ٥٨٨٨، وكان الى جانبها رئيس بلدية غريفة نديم حرب ابو صلاح ممسكاً بباب السيارة، ويضرب رأسه بها باكياً، والى جانبه ضابط سابق في الجيش واسمه معين ابو شقرا. ما ان رآني ابو صلاح مقبلاً على السيارة، حتى صرخ بي قائلاً: تعال وانظر مَن في السيارة!
كان مشهداً لن أنساه ما حييت. المعلم الشهيد كمال جنبلاط داخل السيارة ينزف الدم منه الى ربطة عنقه، وكان يميل بجسده ناحية اليسار، والى جانبه كتاب نكون او لا نكون. كان المشهد مرعباً لكن ما العمل؟ لقد كانت القوى الامنية غير موجودة في المنطقة التي تعج بقوات الردع العربية السورية. تصرفت بعقلية المبادرة العسكرية في الميدان، وكنت ضابط امن مفصولاً الى جهاز المباحث العامة، فقررت اولاً الحفاظ على مسرح الجريمة من اي عبث، لأنه هو الدليل الأهم الذي قد يؤدي الى كشف الفاعلين، وليس من مجرم حسب خبرتي الطويلة، الا ويترك اثرا على مسرح الجريمة، غالباً ما يؤدي الى اقتفاء اثره والكشف عن هويته. فقمت بالتحفظ على القذائف الفارغة، كما استدعينا احد المصورين لالتقاط بعض الصور لمشهد الجريمة بكل تفاصيله.
كانت هذه الاشارة الأولى، الى أن جريمة اغتيال القائد كمال جنبلاط قد وقعت.
وكان الهدف اشعال فتنة بين الدروز والمسيحيين، عن طريق افتعال مجازر في اماكن معينة، مثل مزرعة الشوف والباروك والمعاصر، حيث كانت هناك عائلات مسيحية ما زالت تعيش في منطقة اساسها الاختلاط الدرزي – المسيحي.
ويتابع عصام ابو زكي روايته: كنا في حال صدمة وضياع لا توصف، عندما أطل المرحوم شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز محمد ابو شقرا الذي كان قد ابلغ بالحادث فحضر فوراً لاستطلاع الوضع.
ونظر الشيخ ابو شقرا اليّ وصاح بي: يا عصام، كمال جنبلاط مقتول في السيارة، وأنتم تتركونه على الطريق! وطلب مني نقل السيارة والشهيد الى المختارة.
ويتابع الرواية:
عند وصول وليد جنبلاط الى مسرح الجريمة، كان الوضع في حالة من الغليان. تقدمت منه فأخبرني بأن الاخوان عند الحاجز السوري في منطقة الزير في الدامور اخذوا منه مسدسه ومسدس الضابط رجا حرب الذي كان برفقته، فأصر على استرجاع المسدس وانتقل الى المختارة. وبوصوله الى ساحة القصر، وكانت السيارة متوقفة وسط الجموع، أقدم على ضرب سقفها في قبضة يده ولا يزال الالتواء ظاهراً عليها.
كان وليد جنبلاط منزعجاً مما كان يسمعه من انباء الاعتداء على المسيحيين في بعض قرى الشوف، وكان يوجه تعليماته بغضب وبحزم شديد الى الجميع بضرورة ايقاف الاحداث الدموية التي رافقت اعلان نبأ اغتيال الشهيد جنبلاط، وكان قد وصل الى المختارة المقدم سليم درويش، قائد سرية بعبدا، وهو من الضباط الاكفاء، وشقيق المرحوم القاضي ديب درويش، وهو من ابناء قيتولي في قضاء جزين، وعندما شاهده الوزير جنبلاط قال لي: حافظ على المقدم درويش، وكأنه كان يخشى على كل من سيتولى التحقيق في القضية.
بدأنا التحقيق في ملابسات الجريمة، ولم يطل الأمر حتى بدأت معالم الصورة تتجمع، وكان مدهشاً بالفعل كيف ساهمت جملة من الصدف ومن الحس الأمني وسوء حظ القتلة في اماطة اللثام، وفي غضون ايام قصيرة، عن كافة تفاصيل الجريمة ومن نفذها ومن يقف وراءها.
ويقول ابو زكي ان وليد جنبلاط كان قد اصبح على معرفة بكل تفاصيل التحقيق، وعلى علم بكل الوقائع وكل الادلة، وقد حرص على ان يجمع بنفسه كل عناصر الملف، بل انه وخوفاً من حصول ما قد يزيل معالم التحقيق، او يؤدي الى تلف الملف، قام على الأرجح بحفظ نسخة كاملة منه في مكان آمن في لبنان او في خارجه. كان يعلم حق العلم ان كمال جنبلاط نال شرف الشهادة، ودخلها من الباب الواسع، بعد أن طبع تاريخ لبنان الحديث بصوابية افكاره وأدى واجبه تجاه وطنه، وانه هو ايضا يحمل العبء نفسه ويعيش في دائرة الخطر نفسها. وقد صبر وليد جنبلاط طويلاً على أمل أن يصل الى ذلك اليوم، وغاية صبره، بل قمة الاحتمال الانساني، هو انه وبعد اربعين يوماً على وقوع الجريمة، قال لي في منزله في بيروت: إنني ذاهب الى سوريا لأصافح اليد التي قتلت والدي.
الاغتيال الثاني
ويروي عصام ابو زكي قصة اغتيال الرئيس الشيخ بشير الجميل على الشكل الآتي:
بعد ظهر يوم ١٤ ايلول ١٩٨٢، وفي الساعة الرابعة والدقيقة العاشرة بعد الظهر، كنت في صالون الحلاقة في مار الياس قرب منزل وليد جنبلاط. وبينما كنت جالساً على كرسي الحلاقة، سمعت دوي انفجار هائل وصل الى مسامعنا في مار الياس، تواصلت مع الضباط والعناصر التي كانت موجودة في ثكنة الحلو، عبر الجهاز اللاسلكي، وتبلغت حدوث انفجار قوي في منطقة الاشرفية، وبعد التحريات واستقصاء المعلومات تبين لي ان الانفجار استهدف مبنى حزب الكتائب في الاشرفية بيروت الشرقية والمؤلف من ثلاث طبقات حيث كان الرئيس المنتخب بشير الجميل يعقد اجتماعاً حزبياً فيه.
انتقلت الى ثكنة الحلو، وتابعت المعلومات عبر الاعلام والتقارير، وقد سمعنا اطلاق عيارات نارية كثيفة في سماء العاصمة، وتبين ان الانفجار ناتج عن عبوة موقوتة دمرت المبنى بالكامل، وأدت الى مقتل ١٠٠ شخص بينهم ٢٦ سياسياً من حزب الكتائب.
انتشرت اشاعات تفيد بنجاج بشير من الاغتيال، وبعد ساعات بدأت تردني معلومات عن اقامة حواجز وعمليات خطف للمواطنين في اماكن مختلفة، وبدأت تنتشر الفوضى. وقد استمرينا في تسيير الدوريات ضمن امكانياتنا المتواضعة، لنشر الطمأنينة في النفوس، خصوصاً في المناطق التي يشاع اانها غير آمنة.
في صباح ١٥ ايلول ١٩٨٢، اكد رئيس الحكومة شفيق الوزان ان بشير الجميل قد قتل. وأعلن الحداد الرسمي وساد جو من الخوف والذعر.
وحصل نوع من المواجهة الحادة بين العناصر الاسرائيلية الجانية، والقوى المرابطة للحفاظ على المكان. ودار حوار حول رفض التنسيق مع احد، الا مع قيادة الجيش، أكدت خلاله انني اتلقى تعليماني من المدير العام لقوى الامن الداخلي اللواء احمد الحاج.
لم يرق للعدو الجواب، فأمهلني خمس دقائق لسحب العناصر وفتح باب الثكنة، مؤكداً بأن الثكنة مطوقة.
قلت له سأجري اتصالاً باللواء الحاج، وبالفعل صعدت الى مكتبي، وأجريت اتصالاً بمدير عام قوى الامن اللواء احمد الحاج، وأخبرته ماذا يحدث.
أجابني اللواء الحاج: نفذ ال (Systeme D) الذي تعلمته في المدرسة الحربية. ولم يزد على ذلك. وحرف D يرمز بالتعبير العسكري الى كلمة دبر راسك بالعربية، أي أنه في بعض الحالات، يترك للقائد الميداني اتخاذ القرار، لأنه اكثر احاطة بالظروف والقرار المناسب.
اتخذت القرار قبل ان أنهى الاتصال معه عبر اللاسلكي بالمواجهة ومنع العدو من دخول الثكنة ولو تطلب الامر دخول قتال يائس مع قوته المجهزة بأحدث الاسلحة. نزلت الى ساحة الثكنة، وأعلنت امام الضباط والعناصر ، أن القرار هو المواجهة، ومنع العدو من دخول الثكنة.
في هذه الاثناء تقدمت دبابة ميركافا الى امام المدخل، وقامت باستعراض دائري، فارتطمت بصيدلية يملكها شخص من آل حداد من الباروك، الأمر الذي زاد من جو الخوف، ثم أدار قائد الميركافا مدفعها باتجاه باب الثكنة، ولم يبق بيننا وبينهم سوى أمتار قليلة. عندها دعوت العناصر لعدم الخوف، لأن العدو لن يجرؤ على الجنود بقذائف مدفعية. في هذا الوقت كان الناس يراقبون ما يجري من شرفات المنازل.
بعد جدال طويل مع الضابط المسؤول تأكد له اننا لن نسمح لهم بالدخول. عندها قال لي: أنت فعلاً ضابط قبضاي، لن ندخل الثكنة.
بين ١٦ و١٨ أيلول حدثت مجزرة صبرا وشاتيلا وارتكبت مجازر رهيبة، وذلك بعد يومين من اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب الشيخ بشير الجميّل.
كانت القوات الصهيونية بقيادة وزير الدفاع الاسرائيلي أرييل شارون.
ويقول العميد عصام أبو زكي، انني اتصلت باللواء أحمد الحاج وأعلمته ان الثكنة أصبحت مكتظة بالجرحى من أطفال ونساء وشيوخ، ثم أجريت اتصالا بالرئيس صائب سلام الذي كلّف نجله تمام الاهتمام بالموضوع، وبدأ بارسال العديد منهم الى مستشفى المقاصد.
وعند بزوغ الفجر يضيف العميد ابو زكي: انتقلت الى الطريق الجديدة لمعاينة الجرحى.
وعمليات القتل التي كشف النقاب عنها تمت باشراف وزير الدفاع أرييل شارون ورئيس الأركان رفائيل ايتان.
وكانت مجزرة صبرا وشاتيلا تهدف الى تحقيق هدفين، الأول: الاجهاز على معنويات الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين، والثاني: المساهمة في تأجيج نيران العداوات الطائفية بين اللبنانيين أنفسهم.
بعد الانتهاء من مهمتنا داخل المخيم، يقول أبو زكي، انتقلنا بدورياتنا في جميع شوارع بيروت لطمأنة الناس وتلبية نداءاتهم المتكررة ونزع شرارة الخوف من نفوسهم.
وفي ٢١ أيلول ١٩٨٢، انتخب البرلمان اللبناني الشيخ أمين الجميّل رئيسا للجمهورية، وهو شقيق الشيخ بشير، فأعاد تكليف الرئيس شفيق الوزان لتأليف حكومة العهد الأولى.
وبعد حصار بيروت ورحيل الفصائل الفلسطينية والسورية عن بيروت، استقر وليد جنبلاط في منزله الكائن في كركول الدروز قرب فرن الحطب، نتيجة الأوضاع السائدة في تلك الأيام، وحدوث مجزرة صبرا وشاتيلا والحالة غير الطبيعية التي تشهدها العاصمة. كنت كثير التردد على وليد بك من باب الحرص والاطمئنان. وبعد ظهر اليوم الأول من شهر كانون الأول ١٩٨٢، كنت في مكتبي في ثكنة الحلو، سمعت دوي انفجار في أحد أحياء العاصمة، فهرعت مسرعا الى منزل وليد جنبلاط القريب من الثكنة للاطمئنان عليه، لأن حسي العسكري من جهة، وكلماته التي رددها على مسامعي بعيد مغادرة ياسر عرفات العاصمة بيروت ان لبنان سيغرق في بحر من الدماء من جهة أخرى، جعلاني أشعر بالقلق بأن الانفجار ربما يكون استهدف وليد بك. وقبل وصولي الى المنزل، كنت قد أبلغت عبر جهاز اللاسلكي ان الانفجار وقع في منطقة الصنائع قرب جامعة هايكازيان.
دخلت منزل وليد بك، فوجدت الوزير مروان حمادة يغسل يديه لانتهائه من تناول طعام الغداء مع أبو سعيد العينتيرازي.
سألته: أين وليد بك؟.
أجابني انه خرج منذ بعض الوقت لتناول طعام الغداء على مائدة توما عريضة في الصنائع.
ازدادت شكوكي ومخاوفي وتوجهت مسرعا باتجاه الصنائع.
وبوصولي الى مكان الانفجار الذي سبقتني اليه القوى الأمنية والأدلة الجنائية والخبير العسكري وكبار المسؤولين الأمنيين، ومعاينتي للمكان تبيّن لي أن محرك السيارة المفجرة دلّ على انها من نوع لانسيا. في ذلك اليوم نجا رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وزوجته بأعجوبة فعلاً من محاولة اغتيال، بواسطة سيارة مفخخة، جرى تفجيرها لاسلكيا في اللحظة التي كان وليد بك يغادر مع زوجته السيدة جيرفيت منزل المحامي توما عريضة في محلّة الصنائع قرب جامعة هايكازيان في بيروت، وذلك بعد تناول طعام الغداء على مائدة الأخير. نجا بأعجوبة لأن الانفجار كما تبين استخدمت فيه حسب الخبير العسكري الذي عاين المكان عبوة بزنة ٤٠ كلغ من مادة ال تي. أن. تي. شديدة الانفجار، بحيث أدى على الفور الى استشهاد مرافق جنبلاط الشهيد جمال صعب، وجرح المرافق الآخر رجا فخر الدين، وكانا يجلسان في المقعد الخلفي للسيارة وهي من نوع مرسيدس لون رصاصي مصفحة كما تحطم القسم الأمامي من السيارة، وحدثت فجوة في سقفها جراء انهيار جزء من سقف مدخل البناية فوقها. وبلغ عدد القتلى ستة أشخاص و٨٣ جريحا، كما أدى الحادث الى احتراق وتدمير وتضرر ٢١ سيارة، وتحطم زجاج الأبنية في دائرة طول شعاعها ١٥٠م. مع ذلك، فان الله لطف واقتصرت اصابة وليد بك وقرينته على جروح طفيفة، فجرت معالجتهما في مستشفى الجامعة الأميركية، وكانت السيدة جرفيت حاملا في ولدهما أصلان.
بعد الانتهاء من المعاينة الأولية لمكان الحادث، توجهت الى مستشفى الجامعة الأميركية حيث كان وليد جنبلاط لا يزال في قسم الطوارئ يخضع لتضميد الجروح في رأسه وخضوعه للكشف الطبي. وبينما كنت أطمئن على وضع وليد بك الصحي، وصلت قوة من الجيش اللبناني لنقل أحد الجرحى، الى المستشفى العسكري في بدارو، وبدأت الشكوك تدور في رأسي، وأخبرت وليد بك بالأمر، وأعطيت الأوامر بعدم نقل أي جريح من المستشفى، قبل الحصول على إذن من النيابة العامة.
ترهيب القضاء
باشر التحقيق الفوري في الجريمة والملابسات التي بدأت تتكشف القاضي سعيد ميرزا مدعي عام التمييز فيما بعد وكان يومها مدعيا عاما في بعبدا. وأظهر ميرزا تصميما على المضي في التحقيق وشجاعة في تتبع الأدلة غير آبه بالمخاطر التي كانت تعصف بالبلد. ثم صدر عن المجلس العدلي استنابة للقاضي حسن قوّاس بالتحقيق في الجريمة. وبدأ الرئيس قوّاس عمله، والحق يقال انه كان بطلا وتحمّل الكثير خلال التحقيق، وبالمصادفة فان والده كان قاضيا وحقق في جريمة اغتيال فؤاد جنبلاط اغتيل في ١٦ آب ١٩٢١ والد كمال جنبلاط.
في البداية، أجرى الرئيس قوّاس التحقيقات في بعقلين. وقدمنا له كل المعلومات التي كانت تجمعت من التحقيق، لكن بعد فترة قصيرة من تسلمه للملف، بدأت المضايقات والتهديدات تلاحقه. عندما أوقفه اثنان من المسلحين يرتديان ثيابا مرقطة، وقبعات رأس خضراء اللون في منطقة رأس بيروت حيث يقع منزله، وصعدا الى سيارته البويك، أحدهما جلس الى جانبه والآخر في المقعد الخلفي، فانطلق بهما وعندما وصل الى الأوزاعي استشعر بالخطر المحدق به، فتجاوز الحاجز الترابي، واتجه الى محطة أبو حسن ناصر، وكان الجميع هناك يعرفونه اضافة الي علاقة صداقة تربطه بناصر، وعندما وصل الى المحطة، فتح الباب ونزل مسرعا فأحاطه عمال المحطة ومنعوا المسلحين من الاقتراب منه، وبدأ أبو حسن ناصر يتفاوض معهما لحين تم تهريب الرئيس قوّاس.
بعد هذه الحادثة، أطلقت قذيفة آر. بي. جي على منزله فأحرقته، وأصيب ابنه كريم في ساقه اصابة مباشرة سبّبت له اعاقة مدى الحياة، وتم تسفيره الى أميركا، ولم يرجع ثانية الى لبنان. واستمرت التهديدات تلاحق القاضي قوّاس فقرر ترك بيروت والسكن في عيناب بحماية الوزير وليد جنبلاط، بينما توجهت عائلته الى أميركا.
ورغم ان عناصر الملف اكتملت وتضمنت كشف الجريمة بكل تفاصيلها ومخططيها ومنفذيها، فإن الرئيس قواس لم يصل الى حد اصدار قرار ظني، إذ توقف عن الوصول بالتحقيق حتى غايته بناء على طلب من مرجع أعلى من الرئيس سركيس، طلبت ايقاف التحقيق، ثم عاد وليد جنبلاط وأسقط حقّه، ثم تقرر من بعدها اسقاط الدعاوى والملاحقات الجزائية والكفّ عن التعقبات واسترداد كافة المذكرات الصادرة وحفظ الرسوم والمصاريف.
نتيجة التحقيقات الأولية بشأن السيارة وتحليل مسرح الجريمة التي قام بها أبو زكي شخصيا، تعرّضت لخطر الخطف والتهديد بالتصفية فيما بعد.
وأذكر انه جاءني شخص أعرفه ومعه ضابط سوري قدمه لي بأنه الرائد زيد رضوان، وانه مكلف بالتحقيق في جريمة اغتيال كمال جنبلاط. وكان مع الرائد مرافقون مسلحون، فطلبت منه ان ينتظروه في الخارج.
ويصف العميد أبو زكي علاقته مع الشهيد كمال جنبلاط بأنها كانت وثيقة، تسودها أواصر المحبة والاحترام والتقدير.
واعتبر ان هذه العلاقة ورثتها عن والدي وعن عائلتي التي خصّت دار المختارة بصلة قديمة تجذرت خلال عقود من الزمن. وأعود بالذاكرة هنا الى يوم مقتل المغفور له فواد بك جنبلاط ١٨٨٥م – ١٩٢١م في وادي عينبال، وكان الأخير قد درس في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم عيّن قائم مقام الشوف سنة ١٩١٩، وذلك في آخر أيام الحكم العثماني وبداية الانتداب الفرنسي على لبنان. ويعود الفضل اليه في تأسيس مبنى السرايا في بعقلين، الذي تكفل بشراء أثاثه على نفقته، وطور هيكله الاداري والخدماتي. وبعد معركة ميسلون، وما رافقها من تداعيات سياسية وعسكرية، دخلت منطقة الشوف في معارك كرّ وفرّ بين القوات الفرنسية وحلفائها من اللبنانيين من جهة ومناصري الحكومة العربية من جهة أخرى، أدى جنبلاط دوراً كبيراً في تلك المرحلة في محاولة تطويق الخلافات بين أبناء الجبل ومنع تحوّل أزمة الحكومة العربية في دمشق الى صراعات طائفية في لبنان. وكان فؤاد جنبلاط يتنقل يوميا ما بين القرى والبلدات على صهوة فرسه اليمامة لجمع الشمل ونبذ الخلافات.
وقد بلغنا في أحد الأيام ان قوات سورية تدعمها الدبابات بدأت التقدم صعودا نحو جبل الباروك من جهة كفريا، وأبلغت المعلم كمال جنبلاط ان القوة المتقدمة كبيرة وانه لا قدرة لنا على مقاومتها بهذه الأسلحة المتواضعة، وقد أجابني يومها: لن يكملوا طريقهم، لأنه لا يحق لهم أصلا أن يأخذوا ذلك الطريق، وان هناك خطا أحمر غير معلن تحظر اسرائيل على تلك القوات تجاوزه. وبالفعل، بعد ساعة أو أقل أبلغت ان القوات السورية توقفت في أول طريق الجبل ولم تكمل تقدمها.
الكاردينال الراعي توَّج جولته في قضاء عاليه بزيارة بيت الزعامة الإرسلانية في خلده حيث كرَّمه المير طلال إرسلان بما هو مشهود لهذه الزعامة ولبني معروف، فأقام له عشاء تكريميًا حيث امتلأت باحات قصر خلده بأكثر من خمسمئة شخصية من المشايخ الاجلاء والشخصيات العلمانية والمدنية والعسكرية أعاد لهذه الزعامة وهجها.
المير طلال ارسلان تحدث بوجع الناس والهواجس السياسية فشخَّص معاناة أزمة النظام حيث اصبحت مؤسسات الدولة لا تقوم بواجباتها، والعجز الأكبر يتمثل في عدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
المير طلال تجرأ ليقول بالفم الملآن: هناك استحالة في اجراء انتخابات نيابية قبل الرئاسية، مخاطبًا الكاردينال الراعي بالقول:
نأمل من نيافتكم ان تواصلوا الجهد لانتخاب رئيس جديد للجمهورية إذ لا تكتمل صورة النظام الا بوجود رئيس على رأسه، وتكون صلاحياته كاملة غير منقوصة. وآن للبنانيين ان يدركوا انه لا ينفع انتظار الخارج لانتخاب رئيس بل ان تتضاعف الجهود الداخلية لتحقيق هذا الاستحقاق.