خلال الأشهر القليلة الأخيرة التي كانت فترة تسلّم المديرين الجدد للأجهزة الأمنية اللبنانية، نجحت هذه الأجهزة مجتمعةً في توقيف أكثر من ثلاثة آلاف شخص صادرة في حقهم مذكرات توقيف بتهم إرتكاب جرائم وإرهاب ومخدّرات وغيرها. وقد إعتُبِرت حملةُ التوقيفات هذه الأكبر منذ زمن بعيد.
وعلى رغم ذلك لا تزال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظّمة (مافيات وبيع مخدّرات) تواجه تحدّيات كبيرة، نتيجة تضافر عوامل ومعطيات عدة. لقد تمّ إنجاز هذه التوقيفات بأساليب مختلفة، بعضها الدهم، وبعضها الآخر إعطاء فترة سماح لموقوفين يريدون تبييض سجلّهم، من أجل تسليم أنفسهم. وهذا الإجراء الأخير حقق نتائج جيدة. ومع ذلك تبقى الحاجة ملحّة الى تنظيف البلد من مافيات المخدّرات والجريمة وخلايا الإرهاب.
وحدها مديريّة أمن الدولة قبضت خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة على 20 خلية من الخلايا الإرهابية والمافيات والجريمة المنظّمة، وواحدة تزاول التجسّس لجهة خارجية.
ويومياً تتمّ توقيفات جديدة، ومن المتوقع أن تستمرّ هذه الحال لفترة غير قصيرة لأنّ التوجّهَ العام والجدّي لدى الدولة هو الى تشديد حملة قمع عصابات
الجريمة المنظّمة والمخدّرات وخلايا الإرهاب في كل مناطق لبنان بلا تمييز.
أحدث مظاهر حالات بلطجة الإرهاب والمخدّرات والعصابات كانت ظهرت خلال الأيام الأخيرة في مخيّم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين في بيروت. رأس جبل الثلج الكبير لهذه الظاهرة، برز من خلافٍ نشأ بين عصابتين في المخيّم على حدود نفوذهما فيه، ثمّ تطوّر الى اشتباك أدّى الى مقتل رأسَي العصابتين (سمير بدران وبلال عكر).
وتصلح حادثة مخيّم شاتيلا هذه، لأن تكون نموذجاً لتبيان الخلفية العامة من النواحي السياسية والأمنية والاجتماعية، المسؤولة عن تعاظم هذه الأزمة الخطرة في لبنان.
وفي هذا السياق يمكن إدراج الوقائع الأساسية الآتية:
ـ أولاً، يُعتبر مخيّم شاتيلا الواقع في قلب بيروت، كما مخيّم عين الحلوة في صيدا، ذا مساحة جغرافية ضيقة جداً، (الأول 2 كلم مربع والثاني كلم مربع واحد). وكلاهما تكتظ به كثافة سكانية عالية بكل المقاييس ما يجعل استقرارَه الاجتماعي مهدّداً في استمرار.
وما يزيد من توتر النسيج الاجتماعي لمخيّم شاتيلا، ويجعله بالتالي بيئةً صالحة لأن تستوطن فيه الجريمة المنظّمة وأيضاً خلايا الإرهاب والقوى الدينية التكفيرية المتشدّدة، أنه متصلٌ جغرافياً بأحزمة بؤس لبنانية لصيقة به.
وهذا عامل يسمح بنقل عدوى الجريمة والفكر المتطرّف منه الى محيطه اللبناني، وبالتالي تصبح الآفة عابرة للبيئة اللاجئة أو النازحة الى أن تصبح لبنانية أيضاً.
مخيّم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق، الذي كان له امتدادٌ جغرافي لصيق بأحياء سورية تشاركه الفقر والعوز (منطقة الحجر الأسود وغيرها) شهد أيضاً انتقال حالة الإرهاب منه الى جواره السوري الذي لديه المواصفات المعيشية والإجتماعية نفسها.
تُظهر دراساتٌ ميدانية عن تطوّر السلوك الاجتماعي داخل مخيّم شاتيلا وجواره، أنّ التداخل بينه وبين محيطه اللبناني حصل ضمن سياق التشابه بينهما في حالة العوز المدقع، ما سمح بتحويل المخيّم، مع جزءٍ كبير من منطقته اللبنانية المجاورة، بؤرةَ توتّر اجتماعي تسودها عصابات الجريمة وتنتشر فيها في الوقت نفسه قوى تكفيرية متشدّدة.
ـ ثانياً، كيف تحوّلت ديموغرافيا مخيّم شاتيلا ومنطقته اللبنانية بؤرةَ توتّر اجتماعي ومنطقة للمافيات وتجّار السلاح والمخدّرات وانتشار قوى تكفيريّة فيها؟
شهد المخيّم خلال العقود الأربعة الأخيرة أحداثاً أمنيّة وسياسية أدّت الى تغيير هويّته الديموغرافية وهويّة قاطنيه، والى جعل كل هذه المنطقة مقطونةً في غالبيّتها من هجين اجتماعي يتشكل من عائلات عمال سوريين ومن لبنانيين قيد الدرس (النَوَر) ومن نازحين سوريين لاحقاً.
وهناك ظواهر عدة أساسية شهدها المخيّم ومحيطه منذ العام 1985 حتى الآن، الأولى نتجت من خلال إخراج حركة «فتح ـ عرفات» من مخيّم شاتيلا ومعها قاعدتها الاجتماعية اللاجئة، وسكنت مكانها عائلاتُ عمّالٍ سوريين.
والثانية حدثت بفعل إحداث حيٍّ جديد في المخيّم من جهته الغربية سُمِّي «الحيّ الغربي»، وتقيم فيه عائلاتٌ لبنانية فقيرة وأخرى قيد الدرس وتنتشر فيه مجموعات تجار المخدّرات والسلاح، ولا يفصل «الحيّ الغربي» عن المخيّم سوى شارع واحد.
كذلك نشأ من الجهة الجنوبية من المخيّم حيٌّ يُسمّى «منطقة الرحاب» التي تطوّرت في اتجاه أن تصبح المركزَ التجاري لكل منطقة المخيّم، وهي مسيطر عليها من قوى نافذة سياسياً، ويقيم فيها الآن، بنسبة عالية، نازحون سوريون افتتحوا محالاً تجارية لهم في داخلها.
والواقع أنّ هذه التركيبة الإجتماعية للمخيّم ومحيطه اللبناني المتصل به، أدّيا الى نشوء ما يمكن تسميته «مجتمع المهمّشين» في تلك المنطقة، وتمتاز بأنّ لها دورتها الاقتصادية الكاملة التي تسيطر عليها قوى حزبية سياسية نافذة، وتتحكّم باستقرارها الأمني من عدمه، معادلة خلافات المافيات داخلها أو تفاهمها على توزيع حصص الخوّات وبيع المخدّرات ومناطق نفوذها.
ـ ثالثاً، يوجد في مخيّم شاتيلا حالياً عددٌ من الفصائل والتنظيمات والجماعات الإسلامية لها جميعها امتدادات خارجه بحكم التواصل الجغرافي والديموغرافي والاقتصادي بينه وبين محيطه اللبناني. وقد دهمت السلطات اللبنانية أخيراً مناطق محيطة بالمخيّم ضمن حملة مطاردة خلايا نائمة إرهابية ومافيات جريمة فيها.
وأدّى هذا الدهم الى فرار مطلوبين معروفين وأساسيين الى داخل المخيّم، مثل «ابو عمر. ق» وهو فلسطيني كان ينتمي سابقاً الى «أنصار الله» و»فتح ـ الانتفاضة»، وأيضاً مثل «ج. ج» ومعه مجموعة من المطلوبين اللبنانيين، وجميع هؤلاء مع آخرين تموضعوا في ما يُعرف بـ»المربّع الأمني» داخل مخيّم شاتيلا الذي يسيطر عليه علي فياض المسؤول العسكري لحركة «فتح ـ عرفات» التي عادت الى المخيّم.
وعليه فإنّ المخيّم، بتركيبته الراهنة يمثّل عبوةً قابلةً للانفجار الإجتماعي والإرهابي والجنائي، إذا لم يتمّ تدارك أزماته بوجوهها المختلفة والمتّصلة بكلّ جوانبها بمحيطه اللبناني.
علماً أنه خلافاً لمخيّم عين الحلوة، فإنّ مخيّم شاتيلا لا توجد فيه قوة مشترَكة فلسطينية مكوَّنة من فصائله الفلسطينية، بل إنّ الأمن فيه متروكٌ لمعادلة التعايش داخل مربّعه الأمني بين الفصائل الموجودة فيه، وبين رموز عصابات مافياوية وأيضاً رموز إسلامية تكفيرية تدير خلايا إرهابية نائمة ومختبئة.