IMLebanon

خديعة مزارع شبعا: مستثمرون ثلاثة وخاسرٌ وحيد

 

تُشكِّل مزارع شبعا باكورة ذرائع الألفية الثالثة بالنسبة لـ»حزب الله»، لتبرير وجود سلاحه الهادف إلى «تحرير» الأراضي اللبنانية المحتلة، وفي طليعتها هذه المزارع التي أُضيفت إلى خريطة لبنان، كجزء من هذا الأخير، في عملية تزويرٍ جغرافيّةٍ للحدود، من قبل بعض المسؤولين اللبنانيين، عندما انسحب الجيش الإسرائيلي من الشريط الحدودي المحتلّ عام 2000. أدّى إدخال مزارع شبعا في الخريطة اللبنانية إلى المطالبة من قبل لبنان باستعادتها، ومن «حزب الله» بـ»تحريرها»؛ واتِّخاذ كلٍّ من تل أبيب ودمشق مواقف مرتبطة بالمزارع، خاصة هذه الأخيرة التي تلتقي مع مواقف «الحزب» للاستثمار في هذه المزارع. هذه المواقف أثارت التباساً لدى الرأي العام اللبناني ووسائل إعلامه، حول حقيقة هوية هذه المزارع. لذلك كان لا بدّ من العودة إلى الوقائع التاريخية والجغرافية، للإضاءة على واقع تلك المزارع واستجلاء هويّتها الحقيقية.

 

قضى الإتفاق على الخرائط، بين سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي عام 1920، باستحداث ثلاث دولٍ في المنطقة: فلسطين، لبنان وسوريا. لكنّ الخرائط وحدود الدول لا تصبح حقيقية وواقعية إلّا بعد وضع معالمها وتثبيت هذه المعالم على الأرض؛ لذلك شكّلت الدولتان لجنة مشتركة من بوليت الفرنسي ونيوكامب البريطاني لتحديد معالم الحدود الفاصلة وتثبيتها بين فلسطين (الخاضعة للانتداب البريطاني) من جهة، ودولتي لبنان وسوريا (الخاضعتين للإنتداب الفرنسي) من جهة أخرى. أنهت اللجنة أعمالها بالنسبة للبنان في 7 آذار 1923، بعد أن وضعت 71 معلماً وثبتتها في الأرض، لتؤكد الحدود البرية الفاصلة بين لبنان وفلسطين، من المعلم الأول في رأس الناقورة غرباً، إلى المعلم رقم 71 في «جسر الغجر الروماني» الواقع على نهر الحاصباني شرقاً.

 

وهكذا توقّفت الحدود البرية بين لبنان وفلسطين عند المعلم 71، أي «جسر الغجر الروماني» على نهر الحاصباني؛ هذا النهر يشكّل الحدّ الغربي لمزارع شبعا. اعتُبِرَ المعلم 71 ، أو «جسر الغجر الروماني» نقطة الزاوية الفاصلة بين حدود الدول الثلاث: لبنان، سوريا وفلسطين. هنا يُطرحُ السؤال: إذا كانت مزارع شبعا لبنانية، لماذا توقف وضع معالم الحدود وتثبيتها بين لبنان وفلسطين عند الحدود الغربية للمزارع، أي الرقم 71 (جسر الغجر الروماني)، ولم تُستكمل شرقاً حتى حدود المزارع الشّرقية في وادي العسل، لتكون المزارع جزءاً فعليّاً من الأرض اللبنانية؟ بينما بالمقابل، أكملت اللجنة معالم الحدود بين سوريا وفلسطين بدءاً من المعلم 71 أي جسر الغجر الروماني، باتجاه وادي العسل ونهر بانياس لتتّجه جنوباً على ضفاف نهر الأردن.

 

بالإضافة إلى هذه الوقائع التاريخية التي تؤكد الهوية السورية لمزارع شبعا، نرى أنّ الخرائط اللبنانية المعتمدة في لبنان حتى عام 2000، سواء أكانت سياحية أم عسكرية، هذه الخرائط لا تضع مزارع شبعا داخل الحدود الجغرافية اللبنانية؛ كما لم ينتشر فيها الجيش اللبناني يوماً، للدفاع عنها كما في بقية مناطق الجنوب اللبناني. وفي حرب 1967 انتزعها الجيش الإسرائيلي من يدِ الجيش السوري، الذي كان متمركزاً فيها للدفاع عنها كجزءٍ من الأرض السورية، دون أن يصادف وجود أي عسكري لبناني في تلك المزارع.

 

عقارات من زمن السلطنة

 

بالمقابل، وبصرف النظر عن هويتها، يمتلك أفرادٌ من لبنان وفلسطين وسوريا عقارات في المزارع منذ زمن السلطنة العثمانية. هؤلاء الأفراد استمرّوا في استثمار هذه الأراضي بعد تقسيم 1920 حتى عام 1948، حين تأسّست دولة إسرائيل. بعد هذا التاريخ، أي عام 1948، استمرّ اللبنانيون في استثمار أراضيهم الواقعة في المزارع داخل سوريا؛ وهم يحتفظون بصكوك ملكية هذه الأراضي حتى اليوم. يستند البعض إلى ملكيات كهذه، ويذهب في دعم ذريعة «حزب الله» لتثبيت لبنانية مزارع شبعا، بالقول إنّ صكوك الملكية لهذه الأراضي، مسجّلة لدى الدوائر العقارية في مدينة صيدا. لكن سها عن بال هذا البعض أمران: الأول أن بعض العقارات في تلك المنطقة كان، قبل تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920، يُسجَّلُ في صيدا؛ لأن سنجقية بيروت في العهد العثماني كانت تضمّ صيدا وصولاً إلى بحيرة الحولة؛ أي إلى أبعد من المزارع. وقد يكون بعض هذه الصكوك موروثاً منذ العهد العثماني؛ كما أنّ الحدود والمعاملات الإدارية بين ولايات السلطنة العثمانية، وخاصةً بين سنجقيات كل ولاية، لم تكن صارمة بالمعنى الذي نعيشه اليوم داخل الدول. أما الأمر الثاني والأهم، فهو أن السيادة الوطنية للدول، تقرّرها الحدود الجغرافية المعترف بها دوليّاً، وليس صكوك الملكية للأفراد أو المؤسسات أو الجماعات أيّاً كان الإنتماءُ الوطني لهؤلاء.

 

استسلمت الحكومات اللبنانية المتعاقبة، مجاناً لرغبات «حزب الله» في موضوع المزارع، الذي «أقنعها» بأن للبنان أرضاً سليبة اسمها مزارع شبعا. وهنا يعرف اللبنانيون بقية «العديّة»، عندما توجّهت الدولة اللبنانية إلى الأمم المتحدة للمطالبة بمزارع شبعا تطبيقاً للقرار 425؛ فأحالتها هذه الأخيرة إلى سوريا. وعندما توجّهت إلى سوريا، أحالتها أيضاً هذه الأخيرة إلى القرار 242. وهكذا طبّقت الحكومات اللبنانية دور «المُغفَّل» الباحث عن سرابٍ اسمه مزارع شبعا لبنانية. ويبقى السؤال: من هم المستفيدون من هذه الخديعة، ومن هو المتضرّر؟

 

ثلاث جهات تستفيد من هذه الخديعة

 

الأولى: «حزب الله» الذي حَبَكَ الخديعة بأن المزارع هي جزء من لبنان، ليؤمن بذلك الذريعة التي تبرّر له الإحتفاظ زوراً بالسلاح كغطاء لتحريرها من الاحتلال بينما هو في الواقع يستمرّ بواسطة هذا السلاح في خدمة مشروعه الخاص في الداخل والخارج المناقض لمصلحة لبنان.

 

الثانية: سوريا الواثقة من ملكية المزارع واعتبارها جزءاً من الجولان المحتلّ، الخاضع للقرار 242. لذلك تُفَضِّل سوريا أن تؤيّد الذريعة لسلاح «الحزب» الذي يتبادل الخدمات معها فوق كل ساحات الشرق الأوسط، بدءاً بلبنان وإسرائيل تحت عنوان الممانعة، دون أن يؤثر ذلك على حقها القانوني والدولي في ملكيتها.

 

الثالثة: إسرائيل المتأكدة من الهوية السورية القانونية للمزارع، فحوّلتها إلى أهم المنتجعات السياحية الصيفية والشتوية، بعد 56 عاماً من احتلالها، غير آبهة بالحراك اللبناني، سواء أكان رسمياً أم عسكرياً أم ميليشياويّاً، من انتزاعها منها، بعد أن ضمّت أراضي الجولان، ومن ضمنها المزارع عام 1981، لتصبح جزءاً من أرض إسرائيل التاريخية.

 

ويستمرّ لبنان وحيداً، ينوء تحت أثقال أزمات الشرق الأوسط العديدة، التي تبدأ في فلسطين دون أن تتوقف قبل طهران؛ بعدما اختطفت هذه الأخيرة الأزمة الأم في المنطقة، وحوّلتها إلى مشروع استثمارٍ سياسي، يؤمّن لها حلم السيطرة على المشرق العربي.

 

(*) نائب سابق في «تكتل الجمهورية القوية»