Site icon IMLebanon

مزارع شبعا: هل يا تُرى تعود إليكَ يا لبنان؟

تناقلت وكالات الأخبار في لبنان هذا الأسبوع خبراً عن أن قوّات الاحتلال الإسرائيلي شقّت طريقاً في مزارع شبعا، فيما تستمرّ طائرات العدوّ في خرق الأجواء اللبنانيّة. وتحرّكات قوّات الاحتلال وإحداث تغييرات ممنوعة في القانون الدولي الذي يسري على الاحتلال لا تثير قلقاً لدى قوّات «اليونفيل»، حامية الاحتلال الإسرائيلي من المقاومة ضدّه (ولم تقم «اليونيفيل» بعد بإجراء تحقيق في شأن عمالة أحد موظّفيها للعدوّ الإسرائيلي. لو أنه ثبتَ أن أحداً من موظّفيها يعمل مخبراً لدى حزب الله، لكان مجلس الأمن قد عقد جلسة خاصّة وكانت الأمانة العامة لقوى ١٤ آذار قد أصدرت بياناً لاستنهاض «المجتمع الدولي»). لكن الاعتداءات الإسرائيليّة تستمرّ وهي لم تتوقّف ليوم منذ التوصّل إلى اتفاق ١٧٠١، التي لا يراه فريق ١٤ آذار إلا سارياً على فريق المقاومة فقط لأنه يحقّ للاحتلال ما لا يحقّ للمقاومة. لكن موضوع الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ لبنانيّة غائب عن الأسماع وعن الأنظار.

والجيش اللبناني الذي لم يستطع فرض حصار على عرسال (أو الذي فرض حسب زعمه حصاراً محكماً على عرسال من قبل فوجه المُجوقل، وإن تسرّب من خلال الحصار الحكم آلاف من المقاتلين لـ»داعش» و»النصرة»)، والذي لم يحاول حتى فكّ أسر جنوده بالقوّة، يعلن بصورة شبه يوميّة أنه بكامل «الجهوزيّة» —الكلمة المُفضّلة عند جان قهوجي في معركته الرئاسيّة— لمواجهة العدوّ الإسرائيلي. وإعلان الاستعداد في حالة عدم الاستعداد لا يؤدّي إلا إلى تحقيق المزيد من النكسات على غرار هزيمة حزيران.

والسجالات والشعارات والمداولات والهتافات تملأ الساحة اللبنانيّة لكنها تفتقر إلى الحديث —مجرّد الحديث— عن واحدة من أهم القضايا التي كان يجب ان تشغل كل اللبنانيّين واللبنانيّات، أعني قضيّة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر (حتى لا نتعرّض بالحديث إلى أكثر من ذلك خشية خدش حساسيّة «المجتمع الدولي» الذي لا يتحمّل نقداً إضافيّاً لدولة العدوّ الإسرائيلي التي تجلس في صدارة ما يُسمّى بالمجتمع الدولي). كيف غابت قضيّة مزارع شبعا عن السمع ولماذا لا يجرى الحديث عنها لا في لبنان ولا في المحافل الدوليّة؟ لو أن لدول الغرب القدرة، لطُمِسَت قضيّة فلسطين وقضيّة الجولان تحت سجّادة عملاقة. والصهيونيّة انطلقت على افتراض ان العرب غير مُتعلّقين بأرضهم، أو أن القوّة كفيلة بإنجاز النسيان الوطني. لكن لماذا يبدو ان اللبنانيّين يثبتون يوميّاً خصوصاً من خلال أحزابهم وساستهم ان قضيّة أرضهم المُحتلّة لا تعني لهم شيئاً؟ لماذا اختفت مزارع شبعا من التداول السياسي حتى الشكلي؟ لماذا يتحدّث البعض عن سياسة دفاعيّة —فقط- كأن لبنان أكمل تحرير أرضه وما عليه إلا التحسّب في حال أقدم العدوّ الإسرائيلي على احتلال أرضه مُجدّداً؟ لماذا لا يتمّ الحديث عن سياسة هجوميّة لتحرير الأراضي اللبنانيّة؟ لم ننجز التحرير بعد كي نكتفي بالدفاع عن الأرض.

في كل الاجتماعات التي تجرى بين كل ساسة لبنان وبين دبلوماسيّين غربيّين ومبعوثين عن الأمم المتحدة، لم نعد نقرأ مرّة واحدة ان هناك مَن أثار موضوع مزارع شبعا. هل هذه صدفة أو ان النسيان أو الخرف طرأ على الذاكرة اللبنانيّة الجماعيّة؟ ولماذا في عزّ احتدام المعركة الرئاسيّة لا يُطالب أي مُرشّح بتقديم تصوّر عن كيفيّة تحرير الأراضي المُحتلّة من العدوّ الإسرائيلي؟ هذه ليست سهواً، وليس صدفة ان الموضوع غُيِّب بالكامل عن التداول السياسي. بعد عدوان تمّوز، تبيّن لنا ان هناك البعض في فريق ١٤ آذار —مثل فؤاد السنيورة- كان يثير الموضوع عرضاً في اللقاءات مع الدبلوماسيّين الغربيّين لكن من زاوية العمل على تقويض قوّة حزب الله ونزع شرعيّة سلاحه منه—أي لخدمة العدوّ الإسرائيلي. تصوّر (وتصوّري) ان هناك من يطالب بانسحاب المُحتلّ من أرضنا ليس لتحرير الأرض وإنما لإضعاف الفريق المُقاوِم. أي أن المعضلة في التداول السياسي اللبناني لا تكمن في الاحتلال وإنما في مقاومة الاحتلال. وهذا كان مكمن موقف كل أدوات الاحتلالات الأجنبيّة في التاريخ: من الماريشال بيتان إلى أمين الجميّل في الرئاسة إلى محمود عبّاس. شغل موضوع القضاء على مقاومة الاحتلال كل هؤلاء، فيما كانوا ينفّذون طلبات الاحتلال. وفي لبنان، يتمّ الحديث عن نزع سلاح المقاومة لا عن تحرير الأرض المُحتلّة. لا، وهناك مَن يستهين بالأرض المحتلّة، وفي هذا تسليم بالاحتلال الأجنبي. وهناك من يهديها هكذا للنظام السوري فقط من أجل ان تبقى في صوْن العدوّ الإسرائيلي. لكن التفريط في السيادة عرف من أعراف ممارسة السياسة في لبنان.

لقد ساهم كثيرون، بمن فيهم حزب الله، في تزوير سيرة رفيق الحريري

لكن سياسة إهمال مزارع شبعاً كانت ولا تزال في صلب مشروع ١٤ آذار. لا، إن سياسة إهمال احتلال العدوّ الإسرائيلي لأراضٍ لبنانيّة (وباقي الأراضي العربيّة، بما فيها طبعاً فلسطين) كانت منذ ما قبل ١٩٤٨ عقيدة سائدة في الدولة اللبنانيّة. عقيدة فؤاد شهاب العسكريّة كانت تكمن ليس فقط في الاعتراف بحق العدوّ في احتلال ما يشاء من فلسطين، بل كمنت أيضاً في التنصّل من إلتزامات عربيّة كان لبنان يعقدها مع باقي الدول العربيّة في شأن فلسطين (لهذا فإن الجيش اللبناني خالف ما كان قد وافق عليه من حيث أداء دوره في حرب فلسطين من جملة أدوار الجيوش العربيّة). وبعد احتلال فلسطين في عام ١٩٤٨، التزم الجيش اللبناني وكل الأحزاب السياسيّة الحاكمة بسياسة محاربة مقاومة العدوّ الإسرائيلي والاستكانة إلى إجرام إسرائيل (لا وبل إن عقيدة فؤاد شهاب سمحت بأن يلعب الجيش اللبناني مبارة كرة قدم وديّة مع العدوّ الإسرائيلي في المنطقة الفاصلة بين لبنان وفلسطين بعد إحتلال فلسطين بعام واحد —راجع جريدة «جيروزاليم (كان إسمها لا يزال «بالستيْن») بوست»، ٩ حزيران، ١٩٤٩). لم تتغيّر هذه السياسة عبر العقود حتى الثمانينيات من القرن الماضي. حكومة أمين الجميّل كانت فرعاً لممثليّة أنطوان لحد في جنوب لبنان.

لكن مشروع رفيق الحريري هو الذي تسلّم من لبنان ما قبل الحرب إرث محاربة مقاومات العدوّ الإسرائيلي والاستكانة لاحتلال إسرائيل. طبعاً، لقد ساهم كثيرون، بما فيهم حزب الله، في تزوير سيرة رفيق الحريري وتصويره كحام للمقاومة في لبنان. وهو لم يكن إلا منفّذاً منذ البداية لمشروع وأد المقاومة في لبنان. هو تعاون مع نظام أمين الجميّل وساهم في الترويج لاتفاقيّة ١٧ أيّار (التي عاد بعد سنوات وزعم انه كان معارضاً لها في الوقت الذي جعل من الناطق الرسمي اللبناني باسم المفاوضات اللبنانيّة-الإسرائيليّة من أوثق مستشاريه). واتفاقيّة نيسان لم تكن إلا مشروعاً أميركيّاً إسرائيليّاً لإنقاذ العدوّ الإسرائيلي من حمم قصف المقاومة. لا، لم يُشَرعِن الحريري المقاومة في اتفاقيّة نيسان لا بل هو خاض معركة ١٩٩٦ الانتخابيّة على جثث المقاومين وحرّض سياسيّاً وطائفيّاً ضد المقاومة. هذا ما جعل حسن نصرالله يقول عنه في أسابيع المعركة انه يخوض «عناقيد الغضب» الانتخابيّة ضد مقاومة العدوّ.

لكن تعاطي حركة ١٤ آذار (والتي لا تزال منكبّة على إعداد الوثيقة السياسيّة لمجلسها الوطني، والتي من المتوقّع ان تستنهض الشعب اللبناني وشعوب باقي دول العالم، كما أن فارس سعيد هو الذي استنهض الشباب العربي في سلسلة الانتفاضات العربيّة) مع قضيّة مزارع شبعا وباقي الأراضي اللبنانيّة المُحتلّة تكرّس جدوى المقاومة العسكريّة وتضفي شرعيّة إضافيّة على المقاومة التي لا تحتاج إلى شرعيّة من أحد. إن شرعيّة مقاومة الاحتلال تنطلق من كينونة الاحتلال نفسه، ولا تحتاج إلى إعلانات وأذونات وتنسيق مع أحد، خصوصاً مع القوى الأمنيّة والعسكريّة اللبنانيّة التي تعرّضت للاختراق من العدوّ الإسرائيلي ومن الدواعش على أنواعهم. لكن طرق التعامل الأميركي-السعودي-الإسرائيلي مع ظاهرة المقاومة الفعّالة —التي أذلّت العدوّ الإسرائيلي في عدوان تموّز كما لم يُذلّ في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي الطويل—حتّمت وضع شروط وضوابط لنزع سلاح المقاومة والترويج للنظرة الفيبريّة عن احتكار الدولة للسلاح، كأن صاحبهم فيبر كان يكتب عن مسخ الدولة في لبنان، وكأنه كان ينظّر لدول تعاني من احتلالات أجنبيّة ومن خروقات يوميّة للسيادة. لكن الخطاب والحجج المسوقة في خطاب الفريق السعودي لم تعد ملكه: باتت ترجمات عن الخطاب الصهيوني الغربي في شتّى المواضيع، ويقوم موقع «مؤسّسة واشنطن»— الذراع الفكرية للوبي الصهيوني في العاصمة الأميركيّة — بترجمة كل إنتاج المؤسّسة لتسهيل استبطان واعتناق العقيدة من مُصدّريها.

لماذا يبدو أن اللبنانيّين يثبتون أن قضيّة أرضهم المُحتلّة لا تعني لهم شيئاً؟

وكانت حجّة السنيورة وفريقه بعد اغتيال الحريري —أي بعد إزالة الحجب والاستتار بخطاب التقيّة التي فرضها التحالف السعودي السوري في مرحلة سابقة— تعتمد على عنصريْن: العنصر الأوّل هو نبذ العنف من أساسه بصورة مبدئيّة حازمة، وفي كل الحالات، والتركيز على «النضال الدبلوماسي» كما أسماه السنيورة وأحمد فتفت (بطل موقعة مرجعيون الشهيرة). لكن اندلاع الحروب في اليمن وسوريا وفي غيرها من البلدان العربيّة، والحماسة الـ١٤ آذارية لكل أنواع العنف الموالي لمصلحة آل سعود ولمصلحة العدوّ الإسرائيلي كشفت عن بطلان إعلان النوايا الغانديّة: أي ان هذا الفريق الذي لهج بحمد الثوّار في سوريا — على أنواعهم السلفيّة والجهاديّة والوهابيّة المُتنوّرة ـ والذي هتف للعدوان الخليجي على اليمن تحت عنوان ضرورة الحفاظ على الهويّة العروبيّة لليمن على يد مرتزقة كولومبيّين، لا ينبذ العنف إلا عندما يكون مُوجّهاً ضد العدوّ الإسرائيلي. لم يجرؤ واحد من الذين كانوا يزعمون دعمهم لمقاومة العدوّ الإسرائيلي قبل اغتيال الحريري (وبعد انسحاب ٢٠٠٠) على تأييد عمل مقاوم واحد ضد العدوّ الإسرائيلي. والسنيورة الذي نبذ العنف بالمبدأ ضد العدوّ الإسرائيلي لأنه مسالم، انتظر ساعات فقط على إعلان التحالف السعودي الدولي العنيف ضد «الإرهاب» (بتعريف آل سعود الذي يتوافق مع تعريف العدوّ الإسرائيلي والذي يضع مقاومة العدوّ في أوّل قوائم الإرهاب) كي يثني على التحالف وعله جهده وفعله (بعد ساعات فقط، قرّر السنيورة ان التحالف ناجح في مسعاه).

أما العنصر الثاني في حجّة هذا الفريق فيكمن في التعويل على «قوة لبنان في ضعفه»، اي ان النضال الدبلوماسي و»صداقات لبنان الدوليّة» كفيلة بتحرير كل أراضي لبنان المُحتلّة. لا، وبلغت الصفاقة بهذا الفريق ان أعلن ان تحرير لبنان (بالقوّة) لمعظم أراضيه المُحتلّة في عام ٢٠٠٠ كان بسبب القرار ٤٢٥، والذي صدر قبل عشرين عاماً من طرد العدوّ الإسرائيلي من لبنان، وكان العدوّ فرّ مذعوراً من لبنان إذعاناً لقرار كان قد صدر قبل أكثر من عشرين عاماً. لكن هذا الفريق يُقرن دعوته للنضال الدبلوماسي بإصراره على تسليم كل سلاح المقاومة إلى الجيش اللبناني، وفي هذا تناقض واضح. إذا كان النضال الدبلوماسي هو الكفيل بتحرير الأراضي اللبنانيّة المُحتلّة فما حاجة الجيش اللبناني إلى سلاح المقاومة (على افتراض انه سيحسن استعماله)؟ لماذا لا يطالب هذا الفريق برمي سلاح المقاومة في سلّة المهملات؟ على هذا الفريق، انسجاماً لمنطلقاته النظريّة، أن يُعلن انه لا حاجة للدفاع عن لبنان وأن قوّات الدرك كفيلة بحفظ الأمن لأن «النضال الدبلوماسي» يحمي لبنان.

لكن فريق السنيورة حاول وفق ما نُشر غرباً وإسرائيليّاً عن مراحل عدوان تمّوز وما تلاه، إقناع الحكومة الأميركيّة بالضغط على العدو الإسرائيلي لتحقيق انسحابه من لبنان. لكن هذا الفريق وفق المنشور لم يطلب انسحاب العدوّ الإسرائيلي إلاّ لتعزيز المنطق المُعادي للمقاومة، أي إنه أراد الانسحاب فقط لتقويض المقاومة ضد الاحتلال وليس لتقويض الاحتلال. لكن حتى هذا الطلب والإلحاح المستمرّ من قبل حكومة السنيورة وسعد الحريري لم يواجها من الإدارة الأميركيّة إلا بالتجاهل والاستخفاف. يظنّ طالبو القرب من أميركا (من أمثال جنبلاط والسنيورة والحريري والكاردينال صفير) أن الحكومة الأميركيّة تولّي مصلحة الأدوات السياسيّة العربيّة المحليّة على مصلحة ورغبة ومشيئة العدوّ الإسرائيلي. وهكذا، مرّ نحو عقد من الزمن على عدوان تمّوز الذي أرّخ لمرحلة النضال الدبلوماسي اللبناني. طبعاً، لا أحد يشير إلى أن علاقات الحريري الدبلوماسيّة لم تعد على لبنان إلّا بالديون والوعود، ولم تحقّق له يوماً تلبية لرغبته في التحرّر إما من الاحتلال الإسرائيلي، أو من سيطرة التحالف السوري-السعودي آنذاك.

لكن، هذا بالنسبة إلى ١٤ آذار وقواه «الحيّة» — على ما يُقال، إذ ان القوى الأخرى ليست حيّة، أو هي ليست حتّى من مكوّنات الشعب اللبناني، حسب قول حازم الأمين قبل أيّام في برنامج تلفزيوني. (أي أن كل الجنوبيّين والبقاعيّين المنضوين في حزب الله منفيّون عن الوطن ولا ينتمون إليه لأن خيارهم يتعارض مع الخيار السعودي الديمقراطي في لبنان)، لكن ماذا عن فريق المقاومة؟ ماذا عن الفريق المُتحالف مع المقاومة؟

لا نستطيع ان نتحدّث بدقّة عن فريق للمقاومة في لبنان. هناك فريق للمقاومة وهناك قوى في ٨ آذار تستحق صفة الممانعة، أكثر من صفة المقاومة. والفارق بين المقاومة والممانعة هو مثل الفارق بين النصر اللبناني على العدوّ في عدوان تمّوز وبين التجاهل الكلّي للنظام السوري لأراض محتلّة من قبل العدوّ الإسرائيلي على مرّ أعوام طويلة (تشكّل الأراضي السوريّة التي يحتلّها العدوّ الإسرائيلي نحو ١٠٪ من مساحة سوريا الإجماليّة). وفي السنوات الأخيرة بات بشّار الأسد يتحدّث عن «عودة الجولان»، أي ان الجولان سيأتي ماشياً على قدميه إلى حضن الوطن— طبعاً، في الزمان والمكان المناسبيْن. التمييز بين المقاومة والممانعة هو التمييز بين تحرير الأرض بالقوّة ومن دون تنازلات وسياسية «الرد في الزمان والمكان المناسبيْن على احتلال وعدوان العدوّ». لكن الضغط السياسي الذي أحاط بالمقاومة من قبل فريق ١٤ آذار، وبالنيابة عن العدوّ الإسرائيلي، بعد اغتيال الحريري، نجح في الحدّ من اندفاع المقاومة ومن ثقتها بنفسها. نجح هؤلاء في إخضاع المقاومة لفحص الديمقراطيّة ونتائج الاقتراع وشروط الإجماع، وهذه معايير لم تخضع لها مقاومة في تاريخ الاحتلالات الأجنبيّة. لكن هذه كانت من الأثمان الباهظة التي دفعها حزب الله بعد انخراطه في الحياة السياسيّة اللبنانيّة.

إن لبنان لا يزال يخضع لاحتلال أجنبي يُمعن في خرق سيادته بشتّى الطرق. المواطن اللبناني، علي دياب المحمّد، لم يسمع به أحد، ولم تطالب الدولة اللبنانيّة بالإفراج عنه. علي دياب المحمّد عانى لثماني سنوات في سجون الاحتلال ولم يسمع به أحد. هناك تغييب مقصود في لبنان لكل القضايا التي تسيء لسمعة العدوّ الإسرائيلي. المقاومة، طبعاً، ليست شريكة في جريمة التواطؤ مع العدوّ الإسرائيلي التي ينخرط فيها الفريق السعودي في لبنان. لكن المقاومة تساوم مع الفريق الآخر، ولأسباب داخليّة محض لا علاقة لها بالمقاومة، لا بل هي تأتي غالباً على حسابها.

لقد تدخّل حزب الله في سوريا (بداية بحجّة الدفاع عن المزارات الدينيّة، التي —على أهميّتها للمؤمنين والمؤمنات— لا تزيد اهميّة عن أراض لبنانيّة غالية لا تتحقّق السيادة الوطنيّة من دونها. وشرعيّة عمل المقاومة —كمقاومة— لا تسري على تدخّل حزب الله في سوريا مهما كانت الذرائع والظروف. لكن شرعيّة عمل المقاومة —كمقاومة من لبنان وباتجاه العدوّ الإسرائيلي في كل مكان ـ هي شرعيّة مطلقة، لا يجب ان تعيقها حدود، او تبطل عملها قوانين دوليّة او داخليّة. في ذلك، تسقط كل المسميّات. حتى الدستور اللبناني لا معنى له بوجود احتلال إسرائيلي لم يتوقّف للحظة منذ عقود طويلة، وبوجود كيان لم يتوقّف للحظة عن الاعتداء على لبنان ومواطنيه منذ احتلال فلسطين.

إن مشاريع استراتيجيّات الدفاع الوطني التي زخرت بها طاولات ميشال نزاهة سليمان لا تستحق الدراسة أو التعليق (حتى بطرس حرب، المحامي المُجلّي لـ»بنك المدينة» العريق، قدّم استراتيجيّة خاصّة به بسبب قيادته العسكريّة في أوّل الحرب لميليشيا «لواء تنّورين»). أما المقاومة فإن شرعيّتها تتجدّد بتجدّد عمل مقاومتها وليس فقط في ردعها الفعّال لعدوان العدوّ الإسرائيلي وفي إفشال مشاريعه التخريبيّة والإرهابيّة. لا أقول إن المقاومة التي لا تزال تردع العدوّ عن بعض من عدوانه، لا تتمتّع بشرعيّة تسبغها قوى ١٤ آذار على أعداء لبنان. لكن العدوّ استطاب الإقامة فوق أرض لبنان ولا يجب ان تتحوّل سياسة المقاومة إزاء الأراضي اللبنانيّة المُحتلّة إلى تكرار للسياسة البعثيّة السوريّة التي لم تحرّر شبراً من أراضي الجولان، بالرغم من وفر أشعار سليمان عيسى الوطنيّة.

إن تجربة المقاومة في لبنان تجربة فذّة وهي كفيلة بتحقيق الأحلام العربيّة في تحرير الأراضي العربيّة والقضاء على الكيان الصهيوني الغاصب في حال تعميمها. لكن المقاومة محاصرة مرتيْن: مرّة من قبل التحالف الأميركي-الأوروبي-السعودي-الإسرائيلي ومرّة أخرى بسبب الأخطاء الفادحة التي يرتكبها حزب الله في سياساته الداخليّة في لبنان. لكن المزارع وغيرها من الأراضي اللبنانيّة التي يريد فريق ١٤ آذار تقديمها هديّة مجانيّة إلى العدوّ الإسرائيلي تحتاج إلى خطّة واضحة ومحدّدة لتحريرها والقرار ١٧٠١ جاء من أجل ان يكبّل عمل المقاومة ومن أجل تشريع خروقات العدوّ الإسرائيلي للسيادة اللبنانيّة. وإذا كان فريقا النزاع في لبنان لا يكترثان لاستمرار الاحتلال، فإن واجب المقاومة عمل ما تراه مناسباً لتحرير الأرض. هذه أولويّة تعلو على القوانين الداخليّة والدوليّة. وهي حتماً تعلو على «إعلان بعبدا».