ظَّل الأزهر لقرابة الألف عام مرجعيًة إسلاميًة كبرى٬ والمؤسسة التعليمية الأكبر في العقيدة والعبادة والتعليم في عالم الأكثرية الإسلامية٬ عالم أهل السنة والجماعة. وحتى في العصر العثماني٬ عندما كانت إسطنبول عاصمًة لإمبراطوريٍة إسلاميٍة عظمى٬ ظَّلُطلاّب العلم من آسيا وأفريقيا وبينهم كثيرون من الشعوب التركية٬ وشعوب إمبراطورية الُمُغل بالهند وأفغانستان٬ يأتون للأزهر طلًبا للعلم٬ وتستقُّر كثرةٌ منهم في مرابعه ومرابع مصر٬ كنانة الله في أرضه. وخلال القرن العشرين٬ ما اكتفى الأزهر٬ ولا اكتفت مصر باستقبال طلاّب العلوم الإسلامية٬ بل دأب الأزهر على إرسال البعثات التعليمية والدعوية إلى أصقاع العالم الأربعة٬ وخصوًصا الديار الإسلامية. ويرجع ذلك إلى أن الأزهر كان ولا يزال مرجع التقليد السني٬ بمعنى أّن المذاهب السنية الفقهية الأربعةُتدَّرُس جميًعا في أروقته جامًعا وجامعة. ويتوالى على مشيخته وإدارته منذ قرابة الثلاثمائة عام علماء كباٌر من المذاهب الأربعة٬ اختياًرا وتوافًقا أو تعييًنا. ومعروٌف أّن شيخ الأزهر العلامة محمود شلتوت أصدر عام 1959 فتوى بجواز التدريس للمذهب الجعفري والتعبد به.
لماذا أقدم بذلك كله؟ فالأزهر معروُف الهوية والدور٬ وهو الذي كان ولا يزال يقوم بالمبادرات النهضوية في إطار الجماعة الوطنية المصرية٬ وعلى مستوى العالم في الانفتاح على الديانات والثقافات الأخرى. فعندما ذهبنا إلى الأزهر في الستينات من القرن الماضي٬ كان معظم أساتذتنا بكلية أصول الدين ممن جمعوا بين ثقافة الأزهر وتعليمه منذ الِصَغر٬ وعرفوا الدراسة في الجامعات الغربية الكبرى٬ ومن ضمنهم شيخ الأزهر الحالي الذي أتى إلى السوربون في شبابه.
قّدْمُت إذن بهذا التمهيد لا للتعريف بالأزهر٬ لأنه غني عن التعريف٬ بل لأوضحِعَلل وأسباب الجفوة بين الأزهر والفاتيكان خلال السنوات العشر الأخيرة. فقد كان الأزهر هو الذي بادر للتواصل مع سائر الكنائس الغربية منذ الخمسينات من القرن الماضي. وبلغت العلاقاُت ذورًة عاليًة بعد مجمع الفاتيكان الثاني (19621965 ٬ ثم في عهد يوحنا بولس الثاني. لكّن العلاقة الوثيقة هذه اضطربت في عهد البابا السابق بنديكتوس السادس عشر٬ على أثر إلقاء محاضرته الشهيرة بجامعة رغنسبورغ الألمانية عام ٬2006 والتي ربط فيها (ومن دون سياٍق معقول) بين الإسلام والعنف٬ والإسلام واللاعقل (!). وعندما طلب منه الأزهر التوضيح والاعتذار٬ ما رأى ذلك حقيًقا بالتجاوب أو التفسير. وزاد الطين بلّة أنه في عام 2011 وعندما وقعت أحداث الكنيسة بالإسكندرية٬ طالب البابا السابق بنفسه الجهات الدولية بحماية المسيحيين في مصر والشرق الأوسط. وما انقطعت العلاقاُت رغم ذلكُكلِّه٬ لكْن سادْتها التجاُذبات٬ وما كان هناك اهتمام حقيقي بإعادتها إلى سويتها.
أما البابا الحالي فرنسيس فقد أظهر اهتماًما كبيًرا بمشاعر المسلمين٬ وما دخل فيُهوام الإسلاموفوبيا٬ رغم الضغوط التي تعرض لها الفاتيكان من بعضُرعاة كنائس المشرق المرتبطة بالفاتيكان بحجة العنف الذي تعرض له المسيحيون من «الإرهاب الإسلامي» بالعراق وسوريا. لقد أظهر البابا فرنسيس تعاُطًفا لافًتا مع اللاجئين السوريين٬ ودعا دائًما إلى إنهاء العنف الذي يتعرض له الجميع في بعض الدول العربية والإسلامية. وباستثناء تصريٍح لا أدري سياقه٬ كان فيه ذكٌر للإبادات» التي يتعرض لها المسيحيون بالشرق الأوسط٬ فإّن كلمات البابا وتصريحاته ظلّت حافلًة بالتعبير عن تقدير الإسلام ديانًة كبرى٬ وعن رغبته في علاقاٍت وثيقٍة مع المسلمين ومؤسساتهم الدينية. وعندما قيل له مرًة إّن الإسلام هو ديُن فتٍح وقتال٬ أجاب بأّن المسيحية كانت أيًضا ديانة تبشير وفتح!
إّن المهَّم أنه بعد أخٍذ ورٍد واتصالات تمهيدية٬ تلّقى شيخ الأزهر دعوًة من البابا لزيارة الفاتيكان فلّباها٬ وقال الطرفان إنها زيارةٌ تاريخيٌة٬ جرى خلالها تباُدُل الرأي في شّتى القضايا٬ كما جرى الاتفاق على إقامة مشتركٍة لمؤتمر عالمي للسلام. وتحدث شيخ الأزهر عن البعثات التي أرسلها وترأس بعضها بنفسه للسلام والاعتدال والمصالحة في دول آسيا وأفريقيا. وكعادة البابا فرنسيس في التعبير البسيط واللافت قال إن اللقاء مع شيخ الأزهر له دلالاٌت كبرى وأهداف كبرى٬ لكنه يبقى مهًما جًدا بحّد ذاته.
من روما والفاتيكان٬ مضى شيخ الأزهر إلى باريس٬ لحضور مؤتمر «حوار المشرق والمغرب» الذي كان قد دعا إليه مجلس الحكماء الذي يترأسه. وفي افتتاح المؤتمر الذي حضرته شخصياٌت كبرى دينية وثقافية وسياسية٬ ألقى شيخ الأزهر محاضرة شاسعة الآفاق تناول فيها بالفعل قضايا ومشكلات العلاقات بين الشرق والغرب. وقد اعتبر أّن الحَّل العادَل والشامل للقضية الفلسطينية هو المفتاح لتصحيح العلائق المضطربة بين العالمين منذ قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين٬ والمحاولات المستمرة لتغيير هوية الأقصى وسائر الديار. وفي الجانب الثقافي والجيواستراتيجي فّرق شيخ الأزهر بين العولمة والعالمية. وقال إن العولمة تزيد المشكلات ولا تحلّها٬ لأنها تتقصد الإلغاء. ودعا إلى ضرورة استبدال «العالمية» بها٬ التي عّبر عنها شيوخ الأزهر السابقون بأنها عالم التعاُرف والسلام والعدالة.
ورأى أّن العولمة الُمْلغية تدفع الشعوب للمقاومة والتأكيد على الهوية الذاتية. وهو اضطراٌب صارت الإسلاموفوبيا جزًءا منه٬ لأنها (العولمة) تشّكل عقبًة أمام الاندماج الذيُيطالُب به المسلمون٬ في حين أّن المدخل الصالح لذلك هو حقوق المواطنة بعد إذ لم يعد المسلمون جاليات أو أقليات٬ بل هم أبناء الجيل الثالث٬ ولا أوطاَن لهم إلاّ في البلدان الأوروبية التي ولدوا فيها هم وُولد آباؤهم. وفي مقابل العولمة الُمْلغية والإسلاموفوبياَعرض شيخ الأزهر لتجربة النبي صلواُت الله وسلاُمُه عليه كما تعرُضها «صحيفة المدينة»٬ وهي التي تشكل دستوًرا لتجربٍة سياسية وحضارية تعاقُدية وتوافقية وتعددية في الدين والاجتماع والثقافة والمشاركة السياسية.
زيارة شيخ الأزهر للفاتيكان وباريس بالغة الأهمية والدلالة. وذلك بسبب المرجعية الكبيرة للأزهر في المجالين العربي والإسلامي. فنحن محتاجون عرًبا ومسلمين وفي هذه الظروف بالذات٬ ومن مصر بالذات٬ إلى عرض الوجه الحقيقي للإسلام٬ ووجهنا الحقيقي نحن باعتبارنا بشًرا يتعطشون للكرامة والندية والمشاركة في حاضر العالم ومستقبله. لقد شّوه العنف الأسطوري في ديارنا٬ وعنف بعض شباننا في أوروبا وجه الإسلام والمسلمين. وقد قلُت بعد أحداث عام 2001 إننا خسرنا حرب الاعتراف الطويلة الأمد٬ والجارية منذ أكثر من قرن. شيخ الأزهر كان محًقا في التمييز بين العولمة والعالمية. ذلك أّن الكثير مما جرى ويجري من جانبنا مع أنفُِسنا ومع العالم٬ علته هذه الحداثة المعولمة والمخِّربة. على أّن ذلك لا ينفي المسؤولية الإنسانية والأخلاقية والدينية التي ينبغي أن نتحملها ونقوم بأعبائها. لا نستطيع أن نحمل كل الوقت على الاستعمار والغزو الثقافي٬ وننسى الفَُرص الكبرى التي تهددت أو ضاعت في التعليم والتنمية٬ وفي إقامة دول الحكم الصالح٬ والإصلاح الديني٬ والعمل الثقافي المستنير. ما كانت هذه الزيارة هي الأولى ولن تكون الأخيرة لكبار علماء الإسلام. لكنها ينبغي أن تكون ميلاً على جاّدة استعادة العلاقات السوية بالذات والعالم.