تنقضي الأيام، ولا يأتي خبر الرئاسة إلا كوجه كالح أجرد. لكن اللبنانيين يمنحنونه شيئاً من الترف والفكاهة، ليتمكنوا من تغيير حياتهم الساكنة الوتيرية إلى كرنفالات وأهازيج لزوم عيشهم على هذه «القطعة من السما». تطرأ بحماس ملحوظ مواهب عجيبة تعالج الشقاء القديم بالتهميش. في معراب يُدهشُ النبأُ من يشمخ قصره في أرض الصحراء.
يستولي على «شيخ جدة» ذعرٌ كبير. تتردد أحاديث أنّه لم يستطع أن يرفع رأسه ذلك اليوم. في حضوره يحلل الجمع الصفقة الخبيثة. قال قائلهم «إذن لقد انتهت 14 آذار. انتهى كل شيء!». أمّا الرفاق الجدد في معراب فقد كانت دموع فرحهم تزيد بريق الاستعراض توهّجاً. كانوا يطوّقون أذرعهم ببعضهم البعض ويشربون كأس النصر إرضاء لشعور النكاية بمن أراد المكيدة لـ «الحكيم»، فبرهن لهم كيف يخرج من طوق الخيانة كطائر الفينيق، وكيف يقوم قيامة المسيح طوباوياً وزعيماً لـ «الشعب المسيحي العظيم»!.
أرسل شيخ جدة يسأل عمّا يجب عليه أن يفعله سريعاً. فلقد بات مكشوفاً من معظم المسيحيين. مَنْ تبقّى من جنوده منهم في فيلقه غير صالحين إلا لحفلات الشاي التي يقيمها «نادي الوسط» أسبوعياً، لا لمواجهات مفتوحة. خَطْبُ معراب يجعل القدر يهزأ بالشيخ مرة جديدة. زعم حرّاسه ومعالجو قلقه أنّه في أقصى فوضاه. غضبه المتراكم في أعماقه يجعلهم لا يعرفون خططه وتصرفاته. سمع منه أحدهم لعناته لهذه الزمرة المنكودة التي اسمها 14 آذار. وسمعه آخر يقول: لقد حاولت طاقتي لإضعاف حزب الله ونفّذت مناورات مفرطة في الإغراء والابتكار ضد حليفه سليمان فرنجية ليسقط في حربي الذكية الناعمة، لكنّه مضى يفسد عليّ حياتي بلامبالاته وكأنّه يأبى مشاهدتي مجدداً على كرسي الحكومة، وعندما حلّت كارثة معراب تحمّس إعلامه أكثر مما ينبغي للتهكم على ما تجرّعته من سمّ الأصدقاء.
يقال إنّ الشيخ اتصل بالشيخ مستنجداً. طلب منه ردّ الصاع صاعين على أن يوافيه بالبلسم المقدس بطائرة خاصة، وقطعة من ستار الكعبة منحه إياها العاهل المبجّل للتأكيد على أنّ حصة المسيحيين لا يأكلها تيار المستقبل، إنما هي إعارة لأقرب الأجلين: إمّا الطلاق البائن وإما فناء المسيحيين!. لكنّ الشيخ استدرك وسأل الشيخ: هل البلسم هذا يشبه البلسم الذي وهبته لجيشنا ليواجه به الإرهاب؟ حلف الشيخ للشيخ أيماناً مغلظة أنّ وعده حق وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ حزب الله والنظام الأمني اللبناني ــــ السوري هما من منعا بلسم الجيش أن يصل إليه. تلّقى الشيخ «المناولة المقدسة» بالبِشر، وقال للشيخ: سأردّها من بكفيا بأحسن منها. سأرفع عنك الحرج القديم، لئلا ينغّص عليك الراديكاليون من جماعتك كأشرف ريفي، وكل من لم يبتلع «وديعتك» لسليمان فرنجية، وسأهجم على منظّمي التمرد وأنقضّ على وصايا الحكيم العشر لتعود الخلافات تشتعل بين معراب والرابية وحارة حريك وعين التينة. سأخلط الأوراق والتوازنات من جديد. ألست أنا فتى الكتائب؟ سترى كيف سأجعل ما وقع في معراب أمراً نُكْراً، وما انخدع به بيك بنشعي أمراً مشؤوماً. سأقول للجميع: بينما أختال بنشوة الملوك والعظماء الكبار، والجماهير تملأ القاعة تصفيقاً لي، سأقول الكلمة الذهبية: «لن ننتخب مرشحاً يحمل مشروع 8 آذار سواء كان أصيلاً أو صنع في تايوان». أطرق شيخ جدّة قليلاً وقال لشيخ بكفيا: إنّ محفلنا المقدّس، وإن كان عبر الهاتف، لكنّه سيدخل التاريخ على شرط أن لا نتواطأ على الفرار، فالأمر هذه المرّة لن ينتهي من دون دماء. هكذا قال ابن عمتي أحمد. هيّا أسرج الخيول قبل أن يؤذّنَ مؤذنٌ في هذه الصحراء يقول: مات الملك عاش الملك!