الهدف من أي قوة تعزيز وضع لبنان ومناعته، وأي قوة تتحوّل إلى مصدر لإضعاف لبنان يعني انّ هدفها ليس تقويته، لأن القوة يجب ان تكون للبنان الذي يشكل الهدف والمشروع والقضية، وخلاف ذلك يعني السعي إلى قوة ذاتية لقضية لا علاقة لها بالقضية اللبنانية.
كل خطاب «حزب الله» وأدبياته قائمة على منطق القوة في ظل كلام دائم ومكرر عن انتصارات وتحرير ومواجهات وردع وهزائم وصواريخ وقتال ومقاتلين وتهديد وترويع وقبع، ولكن هذه القوة لا تُصرف في لبنان ولا لمصلحته، ولو كانت كذلك لكان وضع البلد مختلف جذرياً، فيما حالة الضعف التي وصل إليها البلد وشعبه سببها هذه القوة بالذات.
ومناسبة هذا الكلام التركيز الذي بدأه الشيخ نعيم قاسم بالدفاع عن منطق المقاومة والقوة تحضيراً للانتخابات النيابية، والذي يسعى من خلاله إلى محاولة تحقيق ثلاثة أهداف أساسية:
الهدف الأول ان يحاول إعادة الربط بين دور «حزب الله» ولبنان، خصوصاً انه بعد خروجه للقتال في سوريا والعراق واليمن وانتفاء عملياته التذكيرية ضد إسرائيل لم يعد أحد يتنبّه إلى دوره في مواجهة الجيش الإسرائيلي والذي خُصِّصت لأجله جلسات حوار لسنوات تحت عنوان «الاستراتيجية الدفاعية»، بل أصبح كل التركيز على دوره الخارجي وانعكاساته السلبية على لبنان، حيث انتقل من استجرار الحروب الإسرائيلية، إلى استجرار المقاطعة الخليجية، وفي الدورين ضرر على لبنان كونه يتفرّد في دور خارجي ليس من شأنه ولا اختصاصه، ولكن بالعودة إلى الهدف الأول للشيخ قاسم فهو يريد إحياء فكرة حوّلها «حزب الله» بنفسه إلى منسية بأن المقاومة هدفها الدفاع عن لبنان.
الهدف الثاني ان يحاول الربط بين دور «حزب الله» من جهة، وبين سيادة لبنان واستقلاله وحريته ودوره في هذا العالم من جهة أخرى، وكأنه اقتطع بعض مصطلحات الخطاب السيادي وأسقطها على دور الحزب، ظناً منه ان خطاباً من هذا النوع يستطيع استقطاب بعض الشرائح اللبنانية، ففي أحد خطاباته الأخيرة مثلا أكد «أننا مع لبنان الذي يريد مستقبلا لأجياله، ويكون سيدا ومستقلا وقويا»، وبالتالي يحاول ان يدخل في اللاوعي اللبناني انّ وظيفة سلاح «حزب الله» الدفاع عن السيادة والاستقلال، فيما سلاح الحزب شكّل ويشكل انتهاكاً صارخاً للسيادة والاستقلال.
الهدف الثالث ان يحاول تكريس المعادلة التالية: قوة لبنان من قوة «حزب الله» والتي تشكل النقيض لمقولة «قوة لبنان في ضعفه» التي شهد لبنان خلالها السلام والازدهار والاستقرار، اي انه يقول بقدر ما يقوى الحزب يقوى لبنان والعكس صحيح، فيكون الهدف دائماً تقوية الحزب كمدخل لتقوية لبنان وليس العكس.
ويمكن وضع هذا التحوّل في خطاب «حزب الله»، الذي أفضل من يعبِّر عن أبعاده العقائدية الشيخ نعيم قاسم، ضمن الأسباب الآتية:
السبب الأول يتعلّق بالانتخابات النيابية التي تشكل، بالنسبة إلى الحزب، أسوأ استحقاق انتخابي منذ العام 2005، كونه لا يخوضها حصرا في مواجهة قوى سياسية محددة على غرار 14 آذار، إنما يخوضها في مواجهة الرأي العام اللبناني بشقيه الذي انتفض في 17 تشرين، والذي يحمِّل الحزب مسؤولية الانهيار وتبدُّل نمط عيشه، وقد تكون المرة الأولى منذ الخروج السوري من لبنان تجتمع أكثرية الطوائف مع أكثرية المواطنين ضد دور الحزب في الداخل والخارج. ولذلك، بدأ الحزب استعداداته الانتخابية بخطاب سياسي ينقله من الدفاع إلى الهجوم بعنوان انّ دوره يشكل عامل قوة لسيادة لبنان واستقلاله.
السبب الثاني قد يكون له ارتباط بالكلام عن بداية التمهيد لخروجه النهائي من سوريا واستطراداً المنطقة، ما يعني نهاية دوره العسكري الخارجي المباشر، الأمر الذي يتطلّب منه إعادة التركيز على دوره اللبناني، وهذه المرة ليس من زاوية مواجهة إسرائيل فقط، إنما من باب ان «يكون سيدا ومستقلا وقويا»، كما أكد قاسم.
السبب الثالث يتصل بالتهيئة لما يمكن ان تؤول إليه المنطقة بعد مفاوضات فيينا في ظل موقف خليجي متقدِّم جداً ورافض للأنشطة الإيرانية المزعزعة للاستقرار في المنطقة، والذي ترجم في 7 بيانات متتالية في تعبير واضح عن رفض استمرار الفوضى القائمة، والدول الخليجية ليست في وارد التراجع عن هذه المواجهة التي ستخوضها حتى تحقيق أهدافها، فيما طهران تخوض مفاوضاتها النووية في أوضاع صعبة وتكتُّل الموقف الدولي ضدها، وعدم وجود اي تفهُّم لدورها في المنطقة، وبالتالي كل هذه العناصر وغيرها تستدعي من «حزب الله» ان يتهيّأ لدوره الجديد من خلال إعادة التموضع الطوعي تجنباً لأن يُجبر عليه.
السبب الرابع يدخل في سياق تطوير «حزب الله» لخطابه بما يتناسب مع الوضع اللبناني، وهذا ما قام به منذ وثيقته التأسيسية الأولى وصولاً إلى الثانية وحتى اليوم، حيث شهد خطابه وأدبياته ومصطلحاته تطورا كبيرا في محاولة لملاءمته مع مزاج الناس، ولكن تطوير الحزب لخطابه لا يعني تخلّيه عن ثلاث ركائز أساسية: مشروعه في تشييع لبنان؛ أولويته الإيرانية وارتباط قراره بدستور ولاية الفقيه لا الدستور اللبناني؛ ورفض تسليم سلاحه.
السبب الخامس يرتبط باعتقاد «حزب الله» انّ بإمكانه مقايضة ورقة دوره الخارجي بالاحتفاظ بسلاحه في لبنان، اي ان تقدِّم طهران ورقة الحوثيين في اليمن مقابل ان تقبض ثمن استمرار ورقة الحزب في لبنان، ومن هذا المنطلق سيعمد إلى إعادة التموضع في ثلاثة اتجاهات: إنهاء دوره الخارجي المباشر من أجل وقف الاشتباك مع الدول الخليجية رفعاً للضغط عن نفسه، إعادة الاعتبار لدوره في مواجهة إسرائيل، وتطوير خطابه السياسي بما ينسجم مع مزاج الناس بقيام دولة وتحقيق السيادة، ولكن من خلال قوة «حزب الله» طبعاً، وذلك بالعودة إلى المعادلة التي يسعى إلى ترسيخها في أذهان اللبنانيين بأنّ «قوة لبنان من قوة حزب الله».
لكنّ الوقائع أظهرت انّ قوة «حزب الله» أدت بالمحصلة والنتيجة العملية إلى إضعاف لبنان وعزله وتجويع اللبنانيين وتهجيرهم، لأن قوة لبنان لا يمكن ان تتحقّق من خلال حزب شعاره الدولة الإسلامية والمقصود الشيعية، ومرجعيته ولاية الفقيه لا الدستور اللبناني، ويتمسك بسلاحه على حساب الدولة اللبنانية، فيما قوة لبنان لا تتحقّق من خلال القوة ولا السلاح ولا غيره، إنما المعبر الوحيد بل الأوحد لتحقيقها يكمن في اتفاق اللبنانيين على ثوابت مشتركة تبدأ بالدولة كمرجعية وحيدة ناظمة لشؤون وطنهم، ولا تنتهي بمعنى لبنان ودوره، وما لم يتم الاتفاق بين اللبنانيين على مساحة مشتركة تجمعهم هي الدولة والجميع تحت سقف دستورها وقوانينها وجيشها، سيبقى لبنان ضعيفاً، لأن قوته بوحدة شعبه فقط لا غير، وبما ان دور «حزب الله» وسلاحه يشكلان انقساماً عمودياً وعميقاً بين اللبنانيين فإنّ المعادلة التي تنطبق على واقع الحال اليوم: ضُعف لبنان سببه «حزب الله».